الغيبة والحجاب وعدم الحضور ، حتى أن كل جزء منها يغيب عن صاحبه وليس لها وجود جمعي حضوري ، فلم يكن مدركة ولا معلومة ولا محسوسة إلا بالتبع لا بالذات ، فهي مناط الجهل والموت والظلمة ، وأما صورة مفارقة عن المادة ولواحقها فوجودها وجود حضوري إدراكي ، لأن وجودها في نفسها بعينه وجودها لمدركها ، سواء كانت صورة جزئية أو كلية ، محسوسة أو معقولة ، فهي المدركة بالفعل دائما ، والأولى ليست مدركة بالفعل ما لم ينتزع عن مادتها ، والقسم الأول هو وجود الدنيا وما فيها ، ولا يكون لها في نفسها حياة إلا بأمر خارج عنها وارد عليها ، والقسم الآخر ، هو وجود الآخرة وما فيها ، وإن حياتها ذاتية لها لا بأمر خارج ، ولهذا قال الله تعالى في حق الدنيا : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) ، وقال في حق الآخرة : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، ولأجل ذلك قيل : إن حال الإنسان في كل ما يراه من الدنيا كحال النائم في المنام عن الرؤيا التي يراها ، ما هي إلا أمثال وحكايات لما هي حقائق موجودة في الخارج يحتاج إلى التعبير.
فالعارف بمنزلة المعبر الذي يعبر عنها بأمور أخروية ، كما قال سبحانه : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) ، وقيل أيضا : إن الدنيا مرآة الآخرة فإنها عالم الشهادة ويرى فيها ما في عالم الغيب وهي الآخرة.
وما أحسن تشبيه الدنيا بالمرآة ، حيث إن سطح المرآة من جهة اللون لأجل الصقالة صار عدميا ، لكنه يصير لأجل صقالته وقوة إمكانه مظهرا لما يقابله من الأشكال والألوان ، كذلك الدنيا أمر عدمي إمكاني حامل للعدم والقوة الإمكانية ، فصارت مظاهر لما يقابله من عالم الآخرة ، فيرى فيها صور الأشياء الثابتة في عالم آخر على وجه محسوس جزئي ، لتطرق النقائص والأعدام إلى تلك الصور من جهة المظهر الدنياوي ، فهذا العالم في الوجود تابع لعالم الغيب ، كما أن الصورة في المرآة تابعة لصورة الناظر ، ألا ترى أن صورتك في المرآة وإن كانت هي الثانية في رتبة