الوجود فإنها قد صارت أولى في حق نفسك فإنك لا ترى نفسك ، وترى صورتك في المرآة أولا ، وربما تغيرت بحسب حال المرآة مستقيمة ومعوجة واحدة ومتكثرة ، ثم تعرف بها صورتك التي هي قائمة بك لا بالمرآة أصلا على سبيل المحاكاة في ثاني الحال ، فانقلب التابع في الوجود متبوعا في حق المعرفة ، وانقلب المتأخر متقدما ، وهذا النوع من الانعكاس والانتكاس ضرورة هذا العالم ، وكذلك عالم الدنيا محاك لعالم الآخرة ، فمن الناس من وفقه الله ويسر له النظر والاعتبار فلا ينظر إلى شيء من هذا العالم إلا ويعبر به إلى عالم الآخرة ، فيسمى عبوره عبرة ، وقد أمر الله تعالى عباده به وقال : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) ، ومنهم من عميت بصيرته فلم يعتبر ولم يعبر عن هذا الحبس ، فاحتبس في عالم الحس والشهادة ، وسيفتح إلى حبسه أبواب جهنم ، وهي مشاعره التي كانت تصلح أن تكون أبوابا إلى فسحة الجنان أيضا كما تصلح لأن تكون أبوابا إلى النيران ، وهذا الحبس ممتلئ نارا شأنها أن تطلع على الأفئدة ، إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة ، إلا أن بينه وبين إدراك حرقها وألمها حجاب ، فإذا رفع الحجاب بالموت أدركها بعين اليقين ، وهذه النار موجودة اليوم كما دل عليه قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ، وقوله : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) ، وقوله : (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) ، وقد أظهر الله الحق على لسان قوم استنطقهم بالحق فقالوا : الجنة والنار مخلوقتان ، نظرا إلى ظاهر قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، وقوله : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ، وقوله : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ، وقوله : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) ، وقوله : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) ، وقوله : (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ).
وهذا هو المروي عن الأئمة الطاهرين عليهم السلم ، روى قدوة المحدثين أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي رضي الله عنه في عيون أخبار الرضا بسنده المتصل إلى عبد السلام بن صالح الهروي ، قال قلت لعلي بن