النارية حصل في الإنسان أثرا من الشيطنة ، وعلى هذا المعنى دل بقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) ، فنبه على أن الإنسان فيه من القوة الشيطانية بقدر ما في الفخار من أثر النار ، وأن الشيطان ذاته من المارج الذي لا استقرار له ، ثم نبه على تكميل الإنسان بنفخ الروح فيه ، بقوله : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ، ثم نبه على تكميل نفسه بالعلوم والمعارف بقوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ، وليس المراد منها صور الألفاظ ، بل المعاني والمفهومات ، ثم ذكر مادة خلقة الإنسان وتقلبها في الأطوار وتدرجها من حالة إلى حالة ومن خلق إلى خلق ، فقال : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).
فإن قيل لم قال (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) ولم يقل فخلقنا العظام لحما كما في السوابق.
قلنا لأن النطفة انتهت إلى صورة العظم التي هي صورة نوعية جوهرية كغيرها من الأعضاء البسيطة ، وليس من شأنها الاستحالة إلى شيء آخر إلا بعد فساد صورتها ، وهي باقية الصورة في بدن الإنسان ، وليس اللحم متكونا من النطفة كالعظم والرباط والعصب وغيرها ، بل أنشأ الله اللحم من الغذاء لا من النطفة ، وأجراها مجرى الكسوة التي تحصل لا من مادة البدن ، ولذلك إذا قطع من الإنسان أو الحيوان اللحم عاد ، ولم يكن كالعظم الذي لا يعود بعد قطعه ، وكذلك العصب وغيره ، وقال أيضا : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ، «فهذا هو الأشد الصوري والبلوغ الحيواني» (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) «بأسباب قدرية مانعة عن الوصول إلى حد الشيخوخية» ، والغاية في هذا المقدار من العمر الوصول إلى الأشد المعنوي والبلوغ العقلي ، فإن هذا الكمال أعني صيرورة النفس عقلا بالفعل بعد ما كانت عقلا بالقوة ينشأ غالبا في حدود الأربعين وما بعدها كما قال : (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ