كثرة لا تحصى ، وإنما وقع الإجمال في حقنا. فمن كوشف بالتفصيل في عين الإجمال علما أو عينا أو حقا ، فذلك العالم الذي أعطاه الله تعالى (الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) ، وليس ذلك إلا الأنبياء عليهمالسلام والورثة لهم من العلماء الراسخين. وأما الفلاسفة المشهورون فليسوا من هذا المقام في شيء ، ولا يعلمون التفصيل في عين الإجمال ، كما يراه صاحب هذا المقام الذي أعطاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وهذه الحكمة عناية ربانية وموهبة إلهية لا يؤتى بها إلا من قبله تعالى ، كما قال (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).
فهذه الآية تدل على أن الحكمة من مواهب الله التي لا تحصل بمجرد السعي ، بل حصولها بالمشية الربانية لا غير. ولأجل ذلك ذكر أنه من فضل الله في قوله تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) بعد قوله : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ).
وفي هذه الآية إشارة إلى أن هذه الحكمة المعبر عنها تارة بالقرآن ، وتارة بالنور وعند الحكماء بالعقل البسيط ، هو من فضل الله وكمال ذاته ، أتاها الله لمن اختاره واصطفاه من خواص عباده ومحبوبيه ، كملك من الملوك يعطي خلعته ولباسه المخصوص لمن أحبه من مقربيه لأن الحكمة الحقة من صفاته الذاتية ، ولا ينالها أحد من الخلق إلا بعد تجرده عن الدنيا وعن نفسه بالتقوى والزهد الحقيقي ، والفناء من شوائب الخليقة والانخراط في سلك المهيمين من ملائكته وعباده المقربين حتى يعلمه الله من لدنه علما ويؤتيه حكمة وخيرا كثيرا وفضلا عظيما ويحييه حياة طيبة ، وجعل له نورا يمشي به في ظلمات الدنيا وبرازخ القبور ، كما في قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) فقوله : (كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) أي فانيا عن غير الله باقيا به. والنور الذي يمشي به في الناس هو نور الله ، كما في قوله صلىاللهعليهوآله : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله». ومن أسمائه الروح ، قوله ، «تعالى (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) وقوله تعالى