طبائعها ينحو نحو الأرض ، وكالنار ينحو نحو العلو ، وهدايته للحيوانات إلى أفعال يتعاطاها بالتسخير وبالإلهام ، كالنحل فيما يتعاطاه من السياسة وأخذ البيوت المسدسات من غير إسراف ومن عمل العسل ، كما أشار بقوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) ، وكالعنكبوت في نسجه ، وهدايته للملائكة بالتسخير والإلهام في أفاعليهم المختصة بهم وببديهة العقل ، لأن علومهم كلها ضرورية فطرية ، فأما الإنسان فهدايته تعالى إياه بكل ذلك وبالفكر ، وذلك أنه هداه تارة بالتسخير كما في تسخير نفسه لقواها بالتحريك ، والاستخدام في أفاعليها الجزئية وإدراكاتها الحسية ، ومن هذا القبيل حركة نبضه وجذبه للغذاء وهضمه ودفعه وغير ذلك من أفاعيله التسخيرية ، وتارة بالإلهام ، كما عند الطفولية للارتضاع ومص الثدي والتشكي من الألم بالبكاء ، وطورا ببديهة العقل ، فإنه يعرف الأوليات ومبادي العلوم ، وطورا بالفكر حيث يتوصل إلى استنباط المجهول بالمعلوم ، فهو تعالى وإن خلق الإنسان عاريا من المعارف التي جعلها للحيوانات بالإلهام ، ومن الملابس والأسلحة التي جعلها للحيوانات بالتسخير ، ومن العلوم التي جعلها للملائكة بالفطرة والبديهة ، فقد جعل للإنسان بالعقل والفكرة قوة التعلم وقوة تحصيل الأدوات والأسباب المتنوعة والآلات المختلفة كالملابس والأسلحة ، فهو مكتف بذاته في تحصيل ما ينفعه في عاجله وآجله ، حيث مكنه الله في استفادة ذلك ووكله إلى نفسه ، وذلك فضيلة له لا رذيلة ، وإنه رفعة له لا ضعة ونقيصة ، فإن الله بإعطائه إياه العقل والفكرة واليد العاملة قد أعطاه كل شيء ، ولو أعطى له حسب ما أعطى غيره من البهائم شيئا شيئا لكان قد منع منه سائر الأشياء ، لأن فعلية البعض يمنع عن قوة سائر الأشياء.
وتحقيق هذه المسألة يحتاج إلى مقدمات غامضة ذهل عنها أكثر المنسوبين إلى العلم ، وقد ظن قوم إن الله خلق الناس من بين الحيوانات خلقا منقوصا ، إذ لم يعط سلاحا يدفع به عن نفسه كالأسد والنمر من الأنياب