موازين الآخرة ما يشبه القبان.
قلنا : قد مر أن هذه المعارف التي هي سبب عروج النفس إلى معارج الملكوت مستفادة من أصلين ، فكل أصل كفة ، والحد المشترك بين الأصلين الداخل فيهما عمود ، وأما ما يشبه القبان فهو ميزان التلازم ، إذ أحد طرفيه أطول ، والآخر أقصر ، ويتولد النتيجة من ازدواج أصلين يدخل شيء من أحدهما في الآخر ، فهذه الموازين الخمسة التي يعرف بها مثاقيل الأفكار ومكاييل الأنظار في العلوم الحقيقية التي هي الأرزاق المعنوية لأهل الآخرة ، وقد أنزل الله تعالى هذه الموازين من السماء ليعلم كل أحد مقدار علمه وعقله وميزان سعيه وعمله ، ويحسب حساب رزقه وأجله ، ويحضر كتاب عمره وأمله ، فإن لكل مخلوق رزقا خاصا وبحسب كل رزق له أجل مكتوب وحساب محسوب ، والأرزاق المعنوية كالأرزاق الحسية متفاوتة في الأكل متفاضلة في دوام الحياة والأجل كما وكيفا ونفعا وضرا بل الأرزاق الأخروية أكثر تفاوتا وأشد تفضيلا من الأرزاق الدنيوية ، كما في قوله تعالى : (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) ، وقال أيضا مخاطبا لنبيه المنذر : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، فأمر الله نبيه بدعوة الخلائق إلى أنواع مختلفة من الرزق حسب تفاوت الغرائز والجبلات للخلق ، فالقرآن بمنزلة مائدة نازلة من السماء إلى الأرض مشتملة على أقسام من الرزق لطوائف من الناس ، ولكل منها رزق معلوم وحياة مقسوم ، فالحكمة والبرهان لقوم ، والموعظة والخطابة لقوم ، والجدل والشهرة لقوم ، ويوجد فيه لغير هؤلاء الطوائف الثلاث أغذية ليست بهذه المثابة من اللطف ، بل أنزل منها على حسب مقاماتهم في الكثافة والسفالة إلى حد القشور والنخالة ، كما في قوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ، فكما يوجد فيه اللبوب كذلك يوجد فيه التبن والقشور ، وهي للعوام الذين درجتهم درجة الأنعام كما قال : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) ، وذلك لأن الغذاء يجب أن يكون مشابها للمغتذي.