أن باطن الإنسان في الدنيا هو ظاهره في الآخرة وظاهره في الآخرة باطنه في الدنيا ، والإنسان يتصور ويخترع هاهنا بقوته الخيالية مشتهيات كثيرة ، يحضر صورها في عالم التمثل الذهني ، إلا أن تلك الصور ليست بمحسوسة ولا حاضرة عند حسه في العين ، بل عند خياله في الذهن ، ولأجل ذلك لا يعظم لذته منها ، بل لا يلتذ منها أصلا للشواغل الحسية ، وأما إذا كان يوم القيامة ، وكان الباطن مكشوفا ظاهرا والعلم عينا والغيب شهادة والذهن خارجا ، كانت اللذة على حسب الظهور والوجود ، لأنها نزلت تلك الصور بمنزلة الصورة الموجودة في العين ، ولن تفارق الآخرة الدنيا في هذا المعنى ، إلا من حيث كمال القوة والقدرة للنفس الإنسانية على تصوير الصور عند القوة الحاسة ، كما تشتهيه ، وكلما تشتهيه الإنسان السعيد حضر عنده دفعة ، وتكون شهوته سبب تخيله وتخيله سبب تمثل الصورة بين يديه وحضورها لديه كما قال تعالى : (فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) ، وقوله : (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) ، وهذه القدرة أوسع وأكمل من القدرة على إيجاد الشيء في الدنيا أي في خارج الحس ، فإن الموجود في الدنيا لا يوجد في مكانين ولا في مكان واحد يوجد اثنان للتزاحم والتضايق الواقعين في هذا العالم ، وأيضا النفس إذا اشتغلت بمحسوس خارجي احتجبت به عن الآخر ، فشغلها محسوس عن محسوس وحجبتها لذة عن لذة أخرى ، والملذ أيضا ليس بقوي في إلذاذه لانغماره في المادة وامتزاجه بغيره ، وكذا في الآلم والمولم وهاهنا كله بخلاف ما في الدار الأخرى ، فإن الصور المحسوسة هناك ، يتضاعف عند الإنسان بلا مزاحمة ولا تضايق ، ولا يستحيل هناك وجود محسوسات غير متناهية دفعة ، إذ لا يجري فيه براهين امتناع الأمور الغير المتناهية مجتمعة ، وأيضا لا يشغل النفس بعض تلك المحسوسات عن بعض ، ولكونها صورا بلا مادة تكون اللذة بها مفطرة لخلوصها عن الشوائب والمكدرات.
فإذا تقرر هذا فثبت أن مثال شجرة طوبى مثال للنفس السعيدة