لا ينافي كونه تعالى قائما بالقسط والعدل والجود والكرم أزلا وأبدا.
وربما توهموا أن مختاريته تعالى أوجبت تجدد الفاعلية واستيناف الفعل بعد ما لم يكن. وهذا أيضا من تلفيقات الأوهام ومختلقات الذهن التي من قبيل أضغاث الأحلام ، فإن اختياره جل ذكره أجل وأرفع من النمط الذي تصوروه من طرفي الجبر والاختيار ، إذ لم يفهم جمهورهم من الجبر إلا في الطبائع العديمة الشعور ، ولا من الاختيار إلا في القصد الذي يكون في الحيوان بعد حصول الداعي عقيب القدرة التي شأنها القوة الإمكانية المتساوية نسبتها إلى الضدين والطرفين ، وهذه لا يوجد إلا في الناقصين في القدرة المفتقرة في كونها مبدأ للفعل إلى انضمام الداعي من الخارج. وأما القدرة الأزلية فليست كما زعموه وجلت وتقدست عما اعتقدوه في حقها ، لأنها عين الإرادة وعين الداعي الذي هو علمه تعالى بالكل على الوجه الأتم الأعلى ، فهو تعالى بنفسه قادر مريد خالق لما يشاء كيف يشاء فاعل لما يريد كيف يريد فكان خالقا لم يزل ولا يزال ، فاعلا للعالم كما يعلم في الآباد والآزال ، فيكون الخلق قديما والمخلوق حادثا والعلم قديما والمعلوم متجددا ، وكذا الإرادة والإفاضة والرازقية كلها مستمرة أزلية ، لكن المرادات والمفاضات والأرزاق حادثة متجددة (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) لعدم تغيره في ذاته وكمالات ذاته وما يقتضيه صفاته الكمالية (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) إذ لا محول لفيضه وإعطائه ولا مبطل لقيوميته وإنشائه ولا مبدل لكلماته. قوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) وقوله : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) وقد علمت أن قوله إبداعه وأمره كلمته وتكوينه. وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) وأمره دائم ، والأمر الدائم لا يتغير ولا يوجب تغير المأمور في ذاته تغير الأمر ، كما لا يوجب تغير الأمر لأن الأمر من عالم الإلهية والبقاء والمأمور من عالم الخلق والفناء والدثور.
وإياك أن تشتبه عليك وتلتبس ما قررناه من تجدد الخلق والتكوين مع بقاء الأمر والإبداع بكلام الأشاعرة ، أتباع أبي الحسن الأشعري ، حيث قالوا : إن العلم قديم والتعلق حادث وكذا القدرة قديمة وتعلقها بالمقدورات حادثة