فطري ذاتي عن تجل وقع من قبل الله لهم ، فأحبوه وانبعثوا إلى الخضوع له تقربا إليه بعبادة ذاتية وحركة جبلية نحوه من غير تكلف. وقال أيضا (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) فلزم ذلك وثابر عليه وداوم. وهذا أيضا تسبيح فطري وثناء ذاتي انبعث عن ذواتهم وبواطنهم التي هي عند ربهم ، فيسري حكم السجود الفطري والصلاة الحقيقية والتسبيح الذاتي إلى ظواهرهم وأمثالهم وأظلالهم كما في قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) ومن لطائف كلامه أنه قال في الآيتين السابقتين (أَلَمْ تَرَ) مخاطبا لنبيه ، وفي هذه الآية (أَوَلَمْ يَرَوْا) بلفظ الجمع المراد به عامة الإنس وكل عاقل ، وذلك لأن متعلق الرؤية فيهما هو الله من حيث كونه مسجودا ومسبحا له ، وفي هذه متعلق الرؤية ما خلق الله ، ولا شك في أن تلك الرؤية مرتبة عظيمة مختصة بالنبي صلىاللهعليهوآله شهودا وعيانا ، فهي له صلىاللهعليهوآله عيان كشفي ، ولنا إيمان علمي ، فأشهده الله تعالى سجود كل شيء وتسبيحه كما أعلمنا بمتابعة دينه وكتابه.
وبالجملة دلت الآيات أن لهذه الموجودات حتى الجبال والشجر والدواب عبادة ذاتية لله ونسك فطري ، ثم قال متمما لما سبق : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) أي ممن يدب عليهما ، يعني أهل السماوات والأرض إشارة إلى حركتها الذاتية الفطرية حسب ما بيناه بالبرهان. وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) يعني الملائكة التي ليست في سماء ولا أرض لا يستكبرون عن عبادة ربهم. ثم وصف المأمورين منهم أنهم (يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ، ثم قال : (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي لا يملون ، لأن مبدأ حركتها وسعيها ليس قوة جسمانية أو غاية حيوانية شهوية أو غضبية بل تشوقا إلى الله وتقربا عنده وتخلصا من ألم الفراق ونار الاشتياق كل ذلك يدل على أن العالم كله في مقام الاستقامة على الصراط والعبودية والخضوع ، إلا كل مخلوق له قوة الفكر وتسلط الوهم وإغواء الشيطان ، وليس إلا النفوس الإنسانية النطقية من حيث أعيان تلك النفوس ،