وأما أبدانهم وهياكلهم فهي أيضا كسائر العالم في التسبيح والعبودية الذاتية ، فأعضاء البدن كلها مسبحة ناطقة ، ألا ترى أنها يشهد على النفوس المسخرة لها يوم القيامة من الجلود والأيدي والأرجل والألسنة والسمع والبصر وجميع القوى فالحكم لله العلي الكبير.
ومن الآيات الدالة على الحركات الذاتية للموجودات نحو الباري جل ذكره قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ، ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ، إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) وقوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) ... (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ، ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) وقوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ (وَهِيَ دُخانٌ) ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) قوله : (طَوْعاً) وقع حالا عن السماء في إتيانها ، فإن حركات السماء إرادية نفسانية تقربا إلى الله تعالى ، كما بين في مقامه ، من أن نفوسها يحرك أجرامها لأجل غايات عقلية ومعشوقات قدسية هي أشعة وأنوار للهوية الإلهية نور الأنوار ، ولها اتصالات بها واستشراقات بأنوارها ، وكل منها يتصل بمعشوقه العقلي ويتحد به. وقوله : (كَرْهاً) إشارة إلى حال الأرض في إتيانها ، فإنها لكثافة طبيعتها وبعد مناسبتها لعالم قدس الحق لا تصير صالحة للتوجه إلى حضرة الأحدية والعبودية والإنابة إلى الله إلا بعد استحالات وانقلابات بالقسر والجبر من جهة قوى محركة خارجية كالغاذية والنامية فيصير غذاء للنبات مصورة بصورته ، ثم للحيوان مصورة بصورته صائرة إياه ، ثم يدخل في باب الإنسانية وهو باب الله الأعظم ، فإذا دخلت في هذا الباب تطيع الله وتحشر إليه فصارت مطيعة بعد ما كانت متعصية ، وكذلك كل حركة قسرية فإنها تصير بعد إعداد القاسر طبيعية صادرة عن الطبيعة المقسورة ، ولهذا قال (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) فحال السماء في توجهها إلى الله كحال المؤمن الفطري في عبادته وعبوديته ، وحال الأرض كحال المؤمن الذي كان أولا كافرا ، ثم تاب عن كفره وآمن وعمل الصالحات. وقوله : (إِنَّا (نَحْنُ) نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) وقوله : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ