في الصور ، وينطوي يوم القيامة في يمين الرحمن ، أعني الجنة العالية تحت قهر الكبرياء وسطوة عالم الجبروت. وإنما عبر عن هذا الفناء بالصعق لا بالموت ونحوه ، تنبيها على أن لها ضربا من الحياة عند الله لا عند أنفسهم ، كمن صار مغمى عليه ، فإنه زالت عنه الحياة الحسية وبقي له ضرب من الحياة في مقام أعلى من بدنه وقوة حسه وحركته ، ولهذا قد يعود ويسري الحياة إلى أعضائه من ذلك المبدإ النفساني.
ومنها قوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وقوله : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) وقوله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً).
والبعث من نشأة طبيعية إلى نشأة أخروية لا يمكن إلا بانقلاب الجوهر وتبدل الذات ، لأن النشأتين الأولى والآخرة متخالفتان في النوع متباينتان في نحو الوجود لا في الأوصاف والأعراض ، وإلا لم يكن كل منها برأسه عالما تاما ، وقد علمت استحالة تعدد العوالم بالعدد مع اتحادها في النوع ، فإذن جوهر الآخرة نوع آخر من الوجود مباين لجوهر الدنيا ، فزوال جوهر نشأة الدنيا دليل على حدوثها ، إذ ما ثبت قدمه امتنع عدمه. فإذا ثبت أن جميع ـ الموجودات الطبيعية منبعثة إلى نشأة أخرى متوجهة إلى الدار الآخرة بالسير الحثيث والحركة الذاتية الجوهرية.
فثبت أن الدنيا دار الانتقال ومنزل الارتحال ومعبر إلى دار القرار ومحل الأبرار. ومنها قوله تعالى : (إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) إشارة إلى الانتقال الفطري للجوهر الطبيعي إلى الله ، ويستوي في هذا التوجه الذاتي والحركة المعنوية المؤمن والكافر والمطيع والعاصي ، إذ كلها مأمور بهذا الإتيان والسفر إلى الله والدار الآخرة ، وهذا التوجه الطبيعي إلى الدار الآخرة لا ينافي الشقاوة والعذاب ، إذ منشأ العذاب أيضا تأكد الوجود وفعلية الذات وزوال الالتباس ورفع الغشاوة وكشف الغطاء وحدة البصر كما في قوله : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) فالنفوس الشقية عند كشف الغطاء ينتبهون من نوم