كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا ، إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ).
قد مر سابقا أن هذه الأجسام الطبيعية منشورة في الدنيا مطوية في الآخرة ، والأرواح بعكس ذلك ، ولهذا الكلام معنيان.
أحدهما ، بحسب المقايسة والنسبة ، يعني أن هذه الأجسام وإن كانت بالفعل هاهنا ، لكنها لقصور وجودها وحقارتها بالقياس إلى موجودات عالم الآخرة مقهورة مدروسة ، وكذا الأرواح وإن كانت موجودة بالفعل هناك فهي بالقياس إلى مشاعر هذه الأدنى ، لقصورها واحتجابها يغيب عنها تلك الموجودات الجلية الباهرة.
وثانيهما ، أن هذه الأجسام تستحيل وتتقلب في حركاتها الذاتية واستحالاتها الجوهرية إلى أن تصير منطوية في صورة عقلية صائرا كل منها روحا محضا كما في الابتداء كانت أرواحا نازلة إلى منازل الأجسام ، فافهم. وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ...) ففيه استدلال على وقوع النشأة الآخرة بتطورات الإنسان في أطوارها الوجودية على نحو التوجه إلى الكمال شيئا فشيئا ، فلا بد لهذه الحركة الرجوعية في القوس العروجي من غاية أخيرة يقف لديها ويقوم عندها ، وتلك الغاية لا يمكن أن يكون من الأكوان الخلقية الطبيعية ، وإلا لاحتاجت إلى غاية أخرى فيتسلسل أو يدور وهما محالان ، فهي أمر أخرى وكون تام خارج عن سلسلة ذوي الغايات من الأكوان الناقصة. قوله : (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) وقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ).
واعلم أن هذه الحجج القرآنية كما يجري في إثبات النشأة الآخرة للإنسان كذلك يجري في إثباتها لجملة العالم وهو الإنسان الكبير ، لأن العلة مشتركة وهو لزوم الحكمة وترتب الغاية وبطلان العبث والجزاف ، فإن هذه الحسبان المذكور في قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) منشؤه غطاء على البصيرة يورث الجهل بأن لكل خلق فائدة وحكمة ، ولكل طبيعة كونية غاية ذاتية ، وأن لكل أجل كتابا ، ولو لم يكن للطبائع الكونية غايات