حقيقية ينتهي إليها وتسكن ، لكان معوقا عن خيراتها ، ممنوعا عن كمالاتها ، فيكون وجودها عبثا معطلا ، ولا عبث ولا معطل في الوجود كما برهن عليه ، إذ لم يخلق هذه الخلائق مجازفة ، بل عن علم وتدبير لفاعل مدبر عليم وصانع حكيم ، ومنع الكمال عن مستحقه قصور في الوجود ونقص في الإعطاء للوجود ، وهو ينافي الرحمة الواسعة والجود الأعم الأتم. فعلم أن لكل نقص كمالا ولكل قوة فعلا ، وهكذا إلى أن يزول النقائص ، ويصل كل مخلوق إلى أقصى كماله الذي ليس له زوال ولا انقطاع ، ويستقر عند ذلك صافيا لبه عن كل دنس وقشر. والعالم الذي فيه لباب الأشياء من غير كدر ، عالم آخر غير هذا العالم ، إليه رجعى الطاهرات الزاكيات من نفوسنا ، وفيه مأوى القادسات الطيبات من عقولنا ، وقوله في النور : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) وقوله في النمل (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) وهم الذين سبقت لهم هذه القيامة (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ). وقد سبقت الإشارة إلى أن القيامة قيامتان : قيامة على النفوس بنفخة الفزع ، وبها يقع النقل من الصور إلى عالم العقول ، وقيامة على العقول بنفخة الصعق ، وبها يقع الفناء التام وينتقل الأمر إلى الواحد القهار. وفي العنكبوت (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) وقوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) أي بعد انخلاعه عن كسوة هذا الكون الطبيعي وتحققه بالوجود الأخروي الباقي بإبقاء الله ، ثم عن لباس الإنانية الأخروية وتحققه بالوجود الحقاني الباقي ببقاء الله ، وقوله : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) وقوله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) موت البدن الذي هو مقام وجودها الطبيعي (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) بعد فنائها عن الوجودين الطبيعي والنفساني ، وانسلاخها عن الكونين الدنيا والآخرة عند قيامها بوجود الحق. وقوله : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).
فإن من اكتحل عين بصيرته بنور العرفان ، وتنور بيت قلبه بسواطع