آيات القرآن ، يجد أعيان العالم وصور الكائنات متبدلة وتعيناتها متزايلة مترادفة خلقا بعد خلق ، سيالة طورا بعد طور إلى طريق الآخرة ، ولهذا سمى الله تعالى هذا الكون الدنياوي لهوا ولعبا ، لأن أكوانها متبدلة كالحركة ، والمتحرك بما هو متحرك شأنه التأدي إلى أمر آخر ، فإذا نظر إليه مع قطع النظر عما يئول إليه كان لهوا وعبثا باطلا. وأما الدار الآخرة فلكون وجودها ووجود ما فيها وجودا علميا وصورة إدراكية بالفعل ، وكل صورة إدراكية بالفعل وجودها عين الحياة ، فلا محالة كلما في الآخرة حيوان محض ، حياته عين ذاته ، ليست كأبدان هذا العالم التي حياتها عارضة لها واردة عليها من خارج ، فهي لا محالة ميتة في ذاتها تقبل صفة الحياة من الأرواح النفسانية المتعلقة بها.
وأما أجساد الآخرة وأشكالها فهي بعينها النفوس المتصورة بتلك الصور بحسب ملكاتها وأخلاقها المكتسبة ، فالجسد والنفس هناك شيء واحد كما يتضح لك في عالم المعاد وحشر الأجساد إن شاء الله. وقوله في الروم : (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) أي بما عند الله من حقائقها العلمية وصورها العقلية ، كما أثبتها الأقدمون من الحكماء كأفلاطون ومن قبله ، وأجل مسمى أي بحسب وجودها الطبيعي الكوني ، لما علمت مرارا أن هذا الوجود زماني متدرج في الكون ، والتدرج في الكون لغاية طبيعية لا محالة ، فينقطع بالضرورة لدى الغاية ، وتلك الغاية إن كانت من الأكوان الخلقية فيعود الكلام إلى غايتها أيضا ، فأما أن يكون لكل غاية غاية ذاتية إلى ما لا نهاية ، ففي ذلك إبطال للغاية إذا كان الكل أوساطا وإثبات للعبث والجزاف في خلق هذا العالم ، أو ينتهي إلى غاية خارجة عن هذه الأكوان الخلقية ، وهو المطلوب.
فغاية الأكوان الخلقية أكوان عقلية ينتهي الأمر إليه وقوله : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي يوجدهم في عالم الخلق والتقدير والمساحة. وإنما أتى بصيغة المضارع ، لما علمت أن وجود كل خلق مسبوق بعدم زماني ثم يعيدهم إلى عالم الآخرة ثم إليه ترجعون بفناء