ففي أحكام التوراة : أحكام السياسة الظاهرة العامة. وفي الإنجيل : أحكام السياسة الباطنة الخاصة. وفي القرآن أحكام السياستين جميعا (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (١) إشارة إلى تحقيق السياسة الظاهرة. وقوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ، وقوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (٢) إشارة إلى تحقيق السياسة الباطنة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : «هو أن تعفو عمّن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك».
ومن العجب أن من رأى غيره بصدق ما عنده ويكمله ويرقيه من درجة إلى درجة ، كيف يسوغ له تكذيبه؟.
النسخ في الحقيقة ليس إبطالا ، بل هو تكميل :
وفي التوراة أحكام عامة ، وأحكام خاصة ، إما بأشخاص ، وإما بأزمان وإذا انتهى الزمان لم يبق ذلك لا محالة ، ولا يقال إنه إبطال أو بداء. كذلك هاهنا.
وأما السبت فلو أن اليهود عرفوا ، لم ورد التكليف بملازمة السبت ، وهو يوم أي شخص من الأشخاص؟ وفي مقابلة أية حالة من الأحوال؟ وجزئي أي زمان؟ عرفوا أن الشريعة الأخيرة حق ، وأنها جاءت لتقرير السبت ، لا لإبطاله ، وهم الذين عدوا في السبت حتى مسخوا قردة خاسئين (٣). وهم يعترفون بذلك ، وبأن موسى عليهالسلام بنى بيتا وصور فيه صورا وأشخاصا ، وبين مراتب الصور ، وأشار إلى تلك الرموز ولكن
__________________
(١) سورة البقرة : الآية ١٧٩.
(٢) سورة الأعراف : الآية ١٩٩.
(٣) خاسئين : في مجمع البيان ١ : ١٢٩ : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ). يخاطب اليهود بأن قد عرفتم الذين اعتدوا منكم في السبت جاوزوا ما أمروا به من ترك الصيد يوم السبت. وكانت الحيتان تجتمع في يوم السبت لأمنها فحبسوها فظلموا وتجاوزوا ما حدّ لهم لأن صيدها حبسها ثم أخذوا بصيده فيه فقامت فرقة فنهت وجاهرت بالنهي واعتزلت فلما أتوا ما نهوا عنه واستحلّوه مسخهم الله تعالى عقوبة لهم قردة وخنازير».