ولكن لا يخفى عدم ورود الإشكال بأنّه كما تقولون في بعض الموارد من أنّ لفظ الماضي أو الحال منسلخ عن الزمان ، أو أنّه في بعض الموارد يكون للاستمرار ، كما يكون الأمر كذلك في حقّ الله تعالى ، كما أنّك ترى أنّ قوله تعالى ، (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) لا يكون دالا على الماضي ، بل مفيد للاستمرار. أو قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يدلّ الماضي فيه على الاستمرار ، كذلك في هذه الآية يكون الماضي دالا على الاستمرار ، ويكون معناه : أنّ الله تعالى لا يكون دأبه وديدنه العقاب بلا بعث الرسول ، فالمراد هو نفي هذه الرويّة عن الله تعالى.
فعلى هذا يستفاد من الآية المباركة أنّ الله تعالى لا يعذّب أحدا قبل البيان وإتمام الحجة ، غاية الأمر تارة يكون عدم العذاب لأجل عدم بعث الرسول ، وتارة يكون لأجل عدم بيان التكليف. وعلى أيّ حال لا يكون لله تعالى هذه الروية أصلا ، وعليه فالآية تدلّ على أنّ الله تعالى لا يعذّب إلّا مع البيان ، فيكون مدلول الآية هو ما حكم به العقل من قبح العقاب بلا بيان ، فهذه الآية دالّة على ذلك ، إلّا أنّه لو قام دليل على وجوب الاحتياط فيكون بيانا ولا بدّ من تقديمه على الآية ، فافهم.
ومنها : قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ.)
وجه الاستدلال : أنّه يظهر من الآية أنّ الله لا يخذلهم بعد إذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يجتنبونه ، فقبل البيان لا يخذلهم.
وأشكل الشيخ الأنصاري على الآية بما أشكل في الآية السابقة ، وأنّ هذا إخبار عن الماضي ، وفيه أيضا ما قلنا في جواب إشكاله في الآية السابقة ، وأنّ المضي يراد منه الاستمرار ، وأنّ من دأبه تعالى وعدله وحكمته المرضية أن لا يكون الخذلان إلّا بعد البيان ، فيكون هو عين حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.