ضرّا أحسّت نباة من مكلّب (١)
وما ذكره في هذا الباب أكثر من أن يحصى ، وقد ذكر في تصريف ما يبني من الكاف واللام والباء أنّ المكلب هو المضري والمعلّم وقد فتّشنا سائر كتب أهل اللغة فما وجدنا أحدا منهم ذكر ذلك ، ومن اغترّ بقولهم : فلان كلب على كذا وتكلّب على كذا ، فغير متأمل ؛ لأنّ الكلب هاهنا هو العطش والمكلّب عندهم هو العطشان ، ولا يقول أحد منهم : كلبت للطائر الجارح ، إذا علّمه واضراه ؛ لأنّ هذه لفظة مستعملة من لفظ الكلاب فكيف تستعمل في غيرها ، فإذا قيل : قد قالوا أسير مكلّب ، قلنا : من قال ذلك فقد فسّره وقال : معنى مكلّب مشدود بالكلب الذي هو القيد ، ولمّا كان الأسير المشدود بالقيد الذي هو الكلب قيل : مكلّب ، وما أنكرنا أن يكون المكلّب في موضع من المواضع يستعمل في غير الكلاب ، وإنّما أنكرنا أن يكون المكلّب هو المعلّم والمغري والمضري ، على أنّا لو سلّمنا هذه اللفظة وأنّها قد استعملت في التعليم والتمرين فذلك مجاز ، والمعنى الذي ذكرنا استعمالها فيه حقيقة ، وحمل القرآن على الحقيقة أولى من حمله على المجاز ، على أنّ قوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) يعني أن يكرّر ويقول : معلمين ؛ لأنّ من حمل لفظة مكلّبين على التعليم لا بدّ من أن يلزمه التكرار ، وإذا جعلنا ذلك مختصّا بالكلاب أفاد ؛ لأنّه بيان ؛ لأنّ هذا الحكم يتعلّق بالكلاب دون غيرها ، ولو أبدلنا في الآية لفظة مكلّبين بمعلّمين لمّا حسنت ، فكيف تحمل على معناها ، ولو صرّحنا بها لكان الكلام قبيحا.
ويدلّ أيضا على ما ذهبنا إليه أنّ الجارح غير الكلب إذا صاد صيدا فقتله فقد حلّه الموت ، وكلّ حيوان حلّه الموت فهو ميتة ويستحقّ هذا الاسم في الشريعة إلّا أن تقوم دلالة شرعية على ذكاته ، فلا يجري عليه حينئذ إسم الميتة وإن حلّه الموت ، فان ادّعوا ذكاة ما حلّه الموت من صيد البازي والفهد وما أشبههما
__________________
(١) جمهرة اللغة ، ١ : ٣٢٦.