والجواب : أنّ للعرب فيما جرى هذه المجرى من الكلام عادة معروفة ، ومذهبا مشهورا ، عند من تصفّح كلامهم وفهم عنهم. ومرادهم بذلك المبالغة في النفي وتأكيده ؛ فمن ذلك قولهم : «فلان لا يرجى خيره» ليس يريدون أنّ فيه خيرا لا يرجى ، وإنّما غرضهم أنّه لا خير عنده على وجه من الوجوه ؛ ومثله : «قلّما رأيت مثل هذا الرجل» وإنّما يريدون أنّ مثله لم ير قليلا ولا كثيرا ؛ وقال امرؤ القيس :
على لاحب لا يهتدي بمناره |
|
إذا سافه العود الدّيافيّ جرجرا (١) |
يصف طريقا ، وأراد بقوله : «لا يهتدي بمناره» أنّه لا منار له فيهتدي بها. والعود : المسنّ من الإبل ، والدّيافيّ : منسوب إلى دياف ، قرية بالشام معروفة. وسافه : شمّه ، والجرجرة مثل الهدير ؛ وإنّما أراد ان أنّ العود إذا شمّه عرفه فاستبعده ، وذكر ما يلحقه فيه من المشقّة ، فجرجر لذلك ؛ وقال ابن أحمر :
لا تفزع الأرنب أهوالها |
|
ولا ترى الضّبّ بها ينجحر |
أراد : ليست بها أهوال فتفزع الأرنب ؛ وقال النّابغة :
يحفّه جانبا نيق وتتبعه |
|
مثل الزّجاجة لم تكحل من الرّمد (٢) |
أراد : ليس بها رمد فتكتحل له ؛ وقال امرؤ القيس أيضا (٣) :
وصمّ حوام ما يقين من الوجى |
|
كأنّ مكان الرّدف منه على رال |
يصف حوافر فرسه. وقوله : «ما يقين من الوجي» فالوجى هو الحفا ، و «يقين» ؛ أي يتوقّين ، يقال : وقي الفرس إذا هاب المشي ، فأراد أنّه لا وجي بحوافره فيتهيبن الأرض من أجله ، والرأل : فرخ النعام ، وشبّه إشراف عجزه
__________________
(١) ديوانه : ١٠١ ، واللاحب : الطريق المنقاد الذى لا ينقطع. والمنار : جمع منارة ؛ وهي العلامة التي تجعل بين الحدين ؛ ورواية الديوان : «النباطي».
(٢) انظر الأبيات وشرحها في ديوان النابغة ـ بشرح البطليوسي ٢٣ ، ٢٤.
(٣) وانظر الديوان : ٦٥.