وقال الله تعالى : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (١) وإنّما أراد هذا المعنى لا محالة.
فإذا تقرّر ما ذكرناه ، وكان الصحيح الجسم يشقّ عليه المشي الطويل إلى الحج لم يكن مستطيعا له في العرف الذي ذكرناه ؛ وكذلك من وجد الراحلة ولم يجد نفقة لطريقه ولا لعياله يشقّ عليه السفر ويصعب وتنفر نفسه لا يسمّى مستطيعا ، فوجب أن تكون الاستطاعة ما ذكرناه ، لارتفاع المشاقّ والتكلّف معه (٢).
[الثالث : إن سأل سائل] فقال : ما القول في الاستطاعة؟ وهل تكون قبل الفعل أو معه؟
الجواب وبالله التوفيق :
إنّ الاستطاعة هي القدرة على الفعل ، والقدرة التي يفعل بها الفعل لا يكون إلّا قبله ، ولا يكون معه في حال وجوده.
والذي يدلّ على ذلك : أنّ القدرة إنّما يحتاج إليها ليحدث بها الفعل ، ويخرج بها من العدم إلى الوجود ، فمتى وجبت والفعل موجود ، فقد وجبت في حال استغنائه عنها ؛ لأنّه لم يستغن بوجوده عن مؤثّر في وجوده ، وإنّما يستغنى في حال البقاء من مؤثرات الوجود لحصول الوجود ، لا بشيء سواه.
وليس يمكن أن تنزّل القدرة في مصاحبتها للفعل الذي تؤثر فيه منزلة العلة المصاحبة للمعلول ؛ لأنّ القدرة ليست علة في المقدور ولا موجبة له ، بل تأثيرها اختيار وإيثار من غير إيجاب ؛ لما قد بيّن في مواضع كثيرة من الكتب.
ولو لا أنّها مفارقة للعلّة بغير شبهة لاحتاج المقدور في حال بقائه إليها ، كحاجته في حال حدوثه ؛ لأنّ العلّة يحتاج المعلول إليها في كلّ حالة من حدوث أو بقاء. ولا خلاف في أنّ القدرة يستغني عنها المقدور في حال بقائه.
وقد قال الشيوخ مؤكدين لهذا المعنى : فمن كان في يده شي فألقاه لا يخلو
__________________
(١) سورة الكهف ، الآيات : ٧٥ ـ ٧٢ ـ ٦٧.
(٢) الناصريات : ٣٠٣.