ذلك وهو لا ينطق إلّا عن وحيه؟ ولو جاز فيما يقتضي النبوّة استمراره التقييد والاختصاص لجاز مثله في نفس النبوّة ، فكأنّا نقول لصاحب الكتاب : لو قيّد موسى عليهالسلام الخلافة بحال دون حال لوجبت على الوجه الذي تعلّق كلامه به ، غير أنّ ذلك لا يجوز أن يفعله عليهالسلام لما ذكرناه ، وليس ما عارض به من الوكالة والإمارة بشيء ؛ لأنّا إنّما أوجبنا استمرار خلافة هارون وأبطلنا التخصيص فيها والتقييد لأمر لا يثبت في الأمير والوكيل ومن يجري مجراهما ؛ لأنّ ولاية هؤلاء يصحّ فيها العزل والتقييد وضروب التخصيص ، ولا يؤدّي إلى التنفير الذي منعنا منه في هارون عليهالسلام.
فأمّا الدلالة على أن هارون كان خليفة موسى عليهالسلام على وجه يثبت بقوله ، فهو القرآن والاجماع قال الله تعالى حكاية عن موسى : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) والظاهر من الاستخلاف حصول الولاية للمستخلف بالقول على طريق النيابة عن المستخلف ، ولهذا لا يصحّ للإنسان أن يقول لغيره : اخلفني في نفقة عيالك ، والقيام بالواجب عليك من أمر منزلك ، أو اخلفني في أداء فروضك وعباداتك ، وقد يجوز أن يأمره بما يجب عليه على سبيل التأكيد فيقول له : اطع ربّك وأقم صلاتك ، وأخرج ممّا يجب من زكاتك ، فقد بان الفرق بين قوله : (وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) في وقوعه على سبيل التأكيد وبين قوله : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) في أنّه ظاهرة تقتضي ولاية تثبت بهذا القول على جهة النيابة ، وليس لأحد أن يمنع من التعلق بظاهر قوله : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) بأن يقول : إنه حكاية لكلام موسى وليس هو نفس كلامه ، فكيف يصح التعلّق بظاهره ؛ لأنّه وإن لم يكن حكاية للفظ موسى بعينه فهو مفيد لمعنى كلامه ومراده ، فلا بدّ من أن يكون موسى أراد بما هذا الكلام حكايته معنى الاستخلاف الذي نعقله ، ونستفيد منه المعنى الذي تقدّم ذكره ؛ لأنّه لو لم يكن المراد ما ذكرناه لم نفهم بحكايته تعالى عن موسى شيئا ، وساغ لقائل أن يقول في قوله تعالى حكايته عنه : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ