لا سبيل إلى العلم بكونه رسولا إلّا من جهة المعجز وجبت بعثة الرسول وتحميله ما فيه مصلحتنا من الشرائع ، وإظهار المعجز على يده لتعلّق هذه الأمور بعضها ببعض ، ولا فرق في هذا الموضع بين أن يعلم أنّ المبعوث إليهم الرسول ، أو بعضهم يطيعون ويؤمنون ، وبين ألّا يعلم ذلك في وجوب البعثة ، وما يجب وجوبها ، لأنّ تعريف المصالح ممّا يقتضيه التكليف العقليّ الذي لا فرق في حسنه بين أن يقع عنده الإيمان أو لا يقع ؛ وليس هذه سبيل ما يظهر من المعجزات بعد قيام الحجّة بما تقدّم منها ؛ لأنّه متى لم ينتفع بها منتفع ، ويؤمن عندها من لم يؤمن لم يكن في إظهارها فائدة ، وكانت عبثا ؛ فافترق الأمران.
فإن قيل : كيف يطابق هذا التأويل قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) ، ومن المعلوم أنّ صرفهم عن الآيات لا يكون مستحقّا بذلك؟
قلنا : يمكن أن يكون قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) لم يرد به تعليل قوله تعالى : (سَأَصْرِفُ) بل يكون كالتعليل لما هو أقرب إليه في ترتيب الكلام ، وهو قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) ، لأنّ من كذب بآيات الله جل وعزّ ؛ وغفل عن تأمّلها والاهتداء بنورها ركب الغيّ ، واتّخذه سبيلا ، وحاد عن الرشد وضلّ ضلالا بعيدا. ورجوع لفظة «ذلك» إلى ما ذكرناه أشبه بالظاهر من رجوعها إلى قوله : (سَأَصْرِفُ) ؛ لأنّ رجوع اللفظ في اللغة إلى أقرب المذكورين إليه أولى.
ويمكن أن يكون قوله تعالى : (كَذَّبُوا) وإن كان بلفظ الماضي المراد به الاستقبال ، ويكون وجهه أنّ التكذيب لمّا كان معلوما منهم لو أظهرت لهم الآيات جعل كأنّه [واقع ، فبني الخطاب عليه ، ولهذا نظائر في اللغة كثيرة. أو يكون جوابا لمحذوف ؛ كأنّه] قال : ذلك بأنّه متى أظهرنا لهم آياتنا كذبوا بها. ويجري ما ذكرناه أوّلا مجرى قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) في أنّه بلفظ الماضي والمعنى الاستقبال.
وثالثها : أن يكون معنى (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) ، أي لا أوتيها من هذه صفته ،