بأن كلّ ثمن يؤخذ عنها يكون قليلا بالإضافة إليها ، ويكون المتعوّض عنها مغبونا مبخوسا خاسر الصفقة.
والوجه الآخر : أنّ في التكبّر ما يكون ممدوحا لأنّ من تكبّر وتنزّه عن الفواحش والدنايا وتباعد عن فعلها ، وتجنب أهلها يكون مستحقّا للمدح ، سالكا لطريق الحقّ ؛ وإنّما التكبّر المذموم هو الواقع على وجه النّخوة والبغي والاستطالة على ذوي الضّعف والفخر عليهم ، والمباهاة لهم ، ومن كان بهذه الصفة فهو مجانب للتواضع الذي ندب الله إليه ، وأرشد إلى الثواب المستحقّ عليه ، ويستحقّ بذلك الذمّ والمقت ، ولهذا شرط تعالى أن يكون التكبّر بغير الحقّ. وقوله تعالى في هذه السورة : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) (١) ، يحتمل أيضا هذين الوجهين اللّذين ذكرناهما.
فإن أريد به البغي المكروه الذي هو الظلم وما أشبهه ، كان قوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) تأكيدا وإخبارا عن أنّ هذه صفته ، وان أريد بالبغي الطلب ـ وذلك أصله في اللغة ـ كان الشرط في موضعه ؛ لأنّ الطلب قد يكون بالحقّ وبغير الحقّ.
فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) وهل الرؤية ها هنا العلم والإدراك بالبصر؟ وهب أنّها يمكن أن تكون في قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) محمولة على رؤية البصر ، لأنّ الآيات والأدلّة ممّا تشاهد كيف تحمل الرؤية الثانية على العلم ، وسبيل الرشد إنّما هي طريقه ، ولا يصحّ أن يرجع بها إلى المذاهب والاعتقادات التي لا يجوز عليها رؤية البصر ، فلا بدّ إذا من أن يكون المراد به رؤية العلم ؛ ومن علم طريق الرّشد لا يجوز أن ينصرف عنه إلى طريق الغيّ ؛ لأنّ العقلاء لا يختارون مثل ذلك.
قلنا : الجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون المراد بالرؤية الثانية رؤية البصر ، ويكون السبيل المذكور في الآية هي الأدلّة ، لأنّها ممّا يدرك بالبصر ، وتسمّى بأنّها سبيل إلى الرشد ، من
__________________
(١) سورة الأعراف ، الآية : ٣٣.