قلنا : إنّما أراد الدعاء والمنازعة والشهوة ولم يرد العزم على المعصية ، وهو لا يبريء نفسه ممّا لا تعرى منه طباع البشر.
وفي ذلك جواب آخر اعتمده أبو عليّ الجبائي واختاره ، وإن كان قد سبق إليه جماعة من أهل التأويل وذكروه ، وهو أنّ هذا الكلام الذي هو (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) إنما هو من كلام المرأة لا من كلام يوسف عليهالسلام ، واستشهدوا على صحة هذا التأويل بأنّه منسوق على الكلام المحكي عن المرأة بلا شكّ. ألا ترى أنّه تعالى قال : (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) (١) (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (٢) فنسق الكلام على كلام المرأة وعلى هذا التأويل يكون التّبرؤ من الخيانة الّذي هو (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) من كلام المرأة لا من كلام يوسف عليهالسلام ويكون المكنّى عنه في قولها (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) هو يوسف عليهالسلام دون زوجها ؛ لأنّ زوجها قد خانته في الحقيقة بالغيب ، وإنّما أرادت إنّي لم أخن يوسف عليهالسلام وهو غائب في السجن ، ولم أقل فيه لمّا سئلت عنه وعن قصّتي معه إلّا الحقّ ، ومن جعل ذلك من كلام يوسف عليهالسلام جعله محمولا على انّي لم أخن العزيز في زوجته بالغيب ، وهذا الجواب كأنّه أشبه بالظاهر ؛ لأنّ الكلام معه لا ينقطع عن اتّساقه وانتظامه.
فإن قيل : فأيّ معنى لسجنه إذا كان عند القوم متبرّئا من المعصية متنزّها عن الخيانة.
قلنا : قد قيل : إنّ العلّة في ذلك الستر على المرأة والتمويه والكتمان لأمرها حتى لا تفتضح وينكشف أمرها لكلّ أحد ، والذي يشهد بذلك قوله تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (٣).
وجواب آخر في الآية على أنّ الهمّ فيها هو العزم (٤) : وهو أن يحمل الكلام
__________________
(١) حصحص الحق : بان بعد كتمانه.
(٢) سورة يوسف ، الآيات : ٥١ ـ ٥٣.
(٣) سورة يوسف ، الآية : ٣٥.
(٤) هذا الجواب يرتبط بأصل المسألة.