يرجع إليه ممّا ذكرناه ، وذلك طاعة لا لوم على مريده ومحبّه] (١).
فإن قيل : كيف يقول : السجن أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه وهو لا يحبّ ما دعوه إليه على وجه من الوجوه ، ومن شأن هذه اللفظة أن تستعمل بين شيئين مشتركين في معناها.
قلنا : قد تستعمل هذه اللفظة فيما لا اشتراك فيه [على الحقيقة] (٢) ، ألا ترى أنّ من خيّر بين ما يكرهه وما يحبّه ساغ له أن يقول : «هذا أحبّ إلى من هذا» ، وإن لم يخيّر [ساغ له ان يقول مبتدئا] «هذا أحب إليّ من هذا» ، إذا كانا لا يشتركان في محبّته؟ وإنّما سوّغ ذلك على أحد الوجهين دون الآخر ؛ لأنّ المخيّر بين الشيئين في الأصل لا يخيّر بينهما إلّا وهما مرادان له أو ممّا يصحّ أن يريدهما ، فموضوع التخيير يقتضي ذلك ، وإن حصل فيما يخالف أصل موضوعه. ومن قال ـ وقد خيّر بين شيئين لا يحبّ أحدهما ـ : «هذا أحبّ إليّ» إنّما يكون مجيبا بما يقتضيه أصل الموضوع في التخيير ، ويقارب ذلك قوله تعالى (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) (٣) ونحن نعلم أنّه لا خير في العقاب ، وأنّما حسن القول لوقوعه [موقع] التقريع والتوبيخ على اختيار المعاصي على الطاعات ، وانّهم ما أثروها إلّا لاعتقادهم أنّ فيها خيرا ونفعا ، فقيل أذلك خير على ما تظنّونه وتعتقدونه أم كذا وكذا؟
وقد قال قوم في قوله تعالى : (أَذلِكَ خَيْرٌ) : إنّه إنّما حسن لاشتراك الحالتين في باب المنزلة ، وإن لم يشتركا في الخير والنفع كما قال تعالى : (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (٤) ومثل هذا المعنى يتأتّى في قوله : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ) ؛ لأنّ الأمرين ـ يعني المعصية ودخول السجن ـ مشتركان في أنّ لكل منها داعيا وعليه باعثا ، وإن لم يشتركا في تناول المحبّة ، فجعل اشتراكهما في دواعي المحبّة اشتراكا في المحبة نفسها ، وأجرى اللفظ على ذلك.
__________________
(١) ما بين المعقوفتين من الأمالي ، ١ : ٤٦٢.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) سورة الفرقان ، الآية : ١٥.
(٤) سورة الفرقان ، الآية : ٢٤.