حجبت الرؤية بسبب الحزن الشديد ، ولكنه كظم غيظه ، وحبس همه في نفسه وصدره ، فقال أولاده له : والله لا تزال تذكر يوسف ، حتى تقع في مرض مشرف على الهلاك ، أو تكون من الهالكين الميتين. قال : لا أشكو بثّي أي ما انطوت عليه نفسي ، وحزني إلا إلى الله وحده ، وأعلم من الله ما لا تعلمون ، أي أرجو منه كل خير وفضل. يا أولادي ، اذهبوا إلى مصر ، وتعرّفوا أخبار يوسف وأخيه بنيامين ، ولا تيأسوا من رحمة الله وفرجه ، إنه لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون الجاحدون قدرة الله وحكمته ورحمته.
لقاء التّعارف الفريد
لقد نجحت خطة يوسف عليهالسلام في استدراج مجيء إخوته وأسرته مرة بعد مرة ، فهو بتعليم الله له وإرشاده ، يسير على خطة محكمة ، ومنهج متقن ، وإخوته لجهلهم وتفريطهم وتآمرهم السابق على يوسف ، لم يدركوا شيئا من هذه الخطة إلا في مرة ثالثة قدموا بها من فلسطين إلى مصر ، وبعد أن رقّ قلب يوسف لاستعطافهم واسترحامهم ، وحدثت المفاجأة العجيبة حيث عرّفهم يوسف بنفسه ، وتم اجتماع الإخوة الاثني عشر في بيت يوسف وسلطانه ، فاعترفوا بالذنب السابق ، وقابلهم يوسف النّبي بالعفو والصفح عنهم ، وتجدد الحبّ الأخوي ، وتهيأ الجو لاستقبال الوالد يعقوب عليهالسلام. قال الله تعالى واصفا هذا اللقاء الأخوي والتعارف الفريد في التاريخ :
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ (١) (٢)
__________________
(١) الهزال من شدّة الجوع.
(٢) بأثمان رديئة كاسدة.