(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١)) (١) [النحل : ١٦ / ١١٠ ـ ١١١].
بعد أن أبان القرآن الكريم في الآيات السابقة الجزاء المستحق للمشركين المفترين الكاذبين ، وللمرتدين عن الإسلام ، فتح باب التوبة والأمل أمام فئة المعذّبين المستضعفين بمكة ، من بعد ما فتنهم المشركون أو الشيطان ، فوافقوا عتاة الشرك الظلمة ، فيما أرادوا منهم من النطق بالكفر ، والرجوع عن الإسلام ثم تمكنوا من الخلاص ، بالهجرة إلى المدينة المنورة ، تاركين بلادهم وأهليهم ، ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وانتظموا في سلك المؤمنين ، وجاهدوا في الله حق جهاده في صف الإيمان ، ضد جند الكفر وأعوان الشيطان ، وصبروا على الأذى والبأس والشدة في المعارك ، فأخبر الله تعالى أنه من بعد تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة ، لغفور لهم ، رحيم بهم يوم المعاد. والله دائما يقبل توبة التائبين ، ويعفو عن المقصرين ، ويرحم المسترحمين والضعفاء الأذلين. ويكون المقصد من الآية : أن من يفتن في دينه ، فيتكلم بكلمة الكفر مكرها أو مضطهدا ، وصدره غير منشرح للكفر ، إذا صلح عمله ، وجاهد في سبيل الله ، وصبر على المكاره ، فالله غفور له ، رحيم به. وعبر الله تعالى عن هذه الفئة بكلمة : (ثم) لبيان بعد مرتبة هؤلاء الذين فتنوا في دينهم ، وجاهدوا وصبروا ، عن مرتبة المفتونين في الدين ، ولم يصبروا ، ولم يجاهدوا.
ثم نبّه الله على ما يتعرض له كل إنسان مؤمن أو كافر يوم القيامة من محاولة الدفاع عن نفسه ، والجدال : وهو الاعتذار عن أموره وأقواله وأفعاله ، إنه اليوم الذي تأتي فيه كل نفس تجادل عن نفسها أو ذاتها ، كل يقول : نفسي نفسي ، كما جاء في آية
__________________
(١) اختبروا وعذبوا لإسلامهم.