طينة علّيّين أو من طينة سجّين ، كناية عن اختلاف الناس في مآربهم ومشاربهم ، فمنهم من يؤول في مساعيه في الحياة إلى درجات على ، ومنهم من يؤول إلى دركات سفلى. كأنّ الأوّلين خلقوا من علّيّين ، حيث تحنّ نفوسهم إليه ، والآخرين خلقوا من سجّين ، حيث تحنّ نفوسهم إليه ، لأنّ الشيء تحنّ إلى أصله ومنشائه ... وهذا من التشبيه البليغ ، نظير قوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ)(١) أي مطبوع على الاستعجال كأنّه مجبول عليه وقد فطر عليه ، قال تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً)(٢). وهذا لأنّ الإنسان ، بنهمه وحرصه المفرط ، يرى كأنّه قد عجنت فطرته بعنصر العجلة ، فيلهف نحو ما يريد من غير هوادة ...
وهكذا الناس في أشكالهم وأنحائهم متفاوتون ، فبعض يسعى نحو الخير بكلّ همّته ، كأنّه من جبلّة ذاته. وآخر يهتمّ بالشرّ كأنّه من صميم فطرته وإذ كان البناء على التشبيه والتمثيل محضا ، فلا موجب لتداعي القول باستلزام الجبر وسلب الاختيار.
قال الزمخشري : إذا كان الإنسان خلق من عجل وكان في فطرته عجولا ، فما وجه ردعه عن الاستعجال ، أليس هذا من تكليف ما لا يطاق؟
قال : كلّا ، وهذا نظير ما ركّب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها ، حيث أعطاه القدرة على كبحها وتسخيرها في مآربه الصالحة وأن لا يرتكب بها الفساد (٣).
***
وهناك تأويل لعلّه أسدّ ، وهو أنّ تلك التعابير كناية عن تمهيدات تتّخذ بشأن كلّ من المؤمنين والفاسقين ، فمن علم الله منه الخير والصلاح ، مهّد له السبل إلى بلوغ كماله ، ومن علم منه الشرّ والفساد ، مهّد له أرضيّة البلوغ إلى مآربه. ذلك لأنّه تعالى هو مسبّب الأسباب ، ولو لا إرادته تعالى (أي الإذن منه تعالى) لم يقع شيء ، (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ*)(٤) ، أي لا تستطيعون فعل شيء ، إلّا
__________________
(١) الأنبياء ٢١ : ٣٧.
(٢) الإسراء ١٧ : ١١.
(٣) تفسير الكشّاف ٣ : ١١٧ بتوضيح.
(٤) الإنسان ٧٦ : ٣٠. وفي سورة التكوير ٨١ : ٢٩ : وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي هذه المشيئة التابعة لمشيئة العبد ، إنّما هي عن مقتضى تدبير عالم الخلق ، ليقع ما يشاؤه العباد وفق مرادهم ، تحقيقا لمبدأ الاختيار في أفعال العباد.