منها يستفاد القدس أي الطهارة (١).
قال أبو حامد الغزالي : القدّوس هو المنزّه عن كلّ وصف يدركه حسّ ، أو يتصوّره خيال ، أو يسبق إليه وهم ، أو يختلج به ضمير ، أو يقضي به تفكير.
قال : ولست أقول : منزّه عن العيوب والنقائص ، فإنّ ذكر ذلك يكاد يقرب من ترك الأدب.
فليس من الأدب أن يقول القائل : ملك البلد ليس بحائك ولا حجّام فإنّه نفي الوجود ، يكاد يوهم إمكان الوجود ، وفي ذلك الإيهام نقص.
بل أقول : القدّوس هو المنزّه عن كلّ وصف من أوصاف الكمال الّذي يظنّه أكثر الخلق كمالا. لأنّ الخلق أوّلا نظروا إلى أنفسهم وعرفوا صفاتهم ، وأدركوا انقسامها إلى ما هو كمال ، ولكنّه في حقّهم ، مثل علمهم وقدرتهم وسمعهم وبصرهم وكلامهم وإرادتهم واختيارهم ، ووضعوا هذه الألفاظ بإزاء هذه المعاني ، وقالوا : إنّ هذه هي أسماء الكمال.
وإلى ما هو نقص في حقّهم ، مثل جهلهم وعجزهم وعماهم وصممهم وخرسهم ، فوضعوا بإزاء هذه المعاني هذه الألفاظ.
ثمّ كانت غايتهم في الثناء على الله تعالى ووصفه ، أن وصفوه بما هو أوصاف كمالهم ، من علم وقدرة وسمع وبصر وكلام ، وأن نفوا عنه ما هو أوصاف نقصهم. والله ـ سبحانه وتعالى ـ منزّه عن أوصاف كمالهم ، كما أنّه منزّه عن أوصاف نقصهم ، بل كلّ صفة تتصوّر للخلق ، فهو منزّه ومقدّس عنها وعمّا يشبهها ويماثلها. ولو لا ورود الرخصة والإذن بإطلاقها لم يجز إطلاق أكثرها ـ وقد شرح ذلك شرحا أوفى في المقدّمة الرابعة من مقدّمات الكتاب.
قال : قدس العبد في أن ينزّه إرادته وعلمه. أمّا علمه ، فينزّهه عن المتخيّلات والمحسوسات والموهومات وكلّ ما يشاركه فيه البهائم من الإدراكات ، بل يكون تردّد نظره وتطواف علمه حول الأمور الأزليّة الإلهيّة المنزّهة عن أن تقرب فتدرك بالحسّ ، أو تبعد فتغيب عن الحسّ. بل يصير متجرّدا في نفسه عن المحسوسات والمتخيّلات كلّها ، ويقتني من العلوم ما لو سلب آلة حسّه وتخيّله بقي ريّانا بالعلوم الشريفة ، الكلّيّة ، الإلهيّة ، المتعلّقة بالمعلومات الأزليّة والأبديّة ، دون الشخصيّات المتغيّرة المستحيلة.
__________________
(١) المفردات : ٣٩٧. وهكذا ذكر ابن اسحاق الزجاجي في كتابه «اشتقاق أسماء الله» : ٢١٤.