عنهم القرآن بالمتّقين ـ يحتضنون الحقّ فور ما وجدوه.
والآيات الأربع ـ بدء السورة ـ تخصّ هؤلاء المسالمين.
والآيتان السادسة والسابعة ـ تعنيان أولئك الجاحدين المناوئين.
وبقيّة الآيات حتّى الآية العشرين ، تصف موقف المراوغين المنافقين ، في تفصيل وتفضيع.
ولنبدأ بالفئة الأولى المسالمة :
قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)
«ذلك» إشارة إلى البعيد ، بعدا في ارتفاع الشأن.
و «الكتاب» : القرآن أو الشريعة الغرّاء. (١)
قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا مجال للريب بعد وفور دلائل اليقين ، إذ كلّ تعاليم الشريعة ، أصولا وفروعا ، تتوافق ومباني العلم والحكمة ، وتتواءم مع الفطرة والعقل السليم. وليس في الشرع ما يتنافر منه الطبع ، فضلا عن العقل الرشيد والفكر السديد.
ومن ثمّ جاء قوله تعالى ـ من غير محاباة ـ :
(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(٢). فقد كانت الغاية من إنزال الذكر وكذلك تبيين الرسول ، هو أن يتفكّر أولئك الألباب ، في مطاوي تعاليم الشريعة ، وليكن أخذهم بها والعمل عليها عن بصيرة نافذة ، وليس عن متابعة عمياء. وهكذا جاء الأمر بالتدبّر والتعقّل والتفكير ، في كثير من آيات القرآن ، متحدّيا شعور ذوي القلوب والأبصار ، الأمر الّذي يجعل من دين الإسلام ، دين الفطرة ودين العقل ودين الشعور والتفكير. فلا يحابي ولا يداهن
__________________
(١) باعتبارها كتابا أي مكتوبا ، يعني مفروضا على المؤمنين. كما في قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (النساء ٤ : ١٠٣). والكتاب في المصطلح القرآني ، كثيرا ما يراد به نفس الشريعة السمحاء ، ولا سيّما في أمثال قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) (آل عمران ٣ : ٨١). حيث الكتاب المسموح به إلى جنب الحكمة ، يراد به الشريعة : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (البقرة ٢ : ١٥١) أي علم الشريعة مع البصيرة في الدين. فالكتاب هي المفروضات ، والحكمة هي التبصّر في الدين والفهم المستقيم وعلم اليقين.
(٢) النحل ١٦ : ٤٤.