الحياء من الله أن يأمر أحدا ببر وينسى نفسه منه ، بل يبتدئ بنفسه ، فقد قال له ربه على لسان رسوله صلىاللهعليهوسلم : ابدأ بنفسك ، وشرع له ذلك حتى في الدعاء إذا دعا الله لأحد أن يبدأ بنفسه ، فإن جميع الخيرات صدقة على النفوس ، أي خير كان حسا ومعنى ، فينبغي للمؤمن أن يتصرف في ذلك بشرع ربه لا بهواه ، فإنه عبد مأمور تحت أمر سيده ، فإن تعدى شرع ربه في ذلك لم يبق له تصرف إلا هوى نفسه ، فسقط عن تلك الدرجة العلية إلى ما هو دونها عند العامة من المؤمنين ، وأما عند الأكابر العارفين فهو عاص ، فإذا خرج الإنسان بصدقته فأول محتاج يلقاه نفسه ، قبل كل نفس محتاجة ، وهو إنما أخرج الصدقة للمحتاجين ، فإن تعدى أول محتاج فذلك لهواه لا لله ، فإن الله قال : ابدأ بنفسك وهو أول من يلقاه من أهل الحاجة ، وقد شرع له في الإحسان أي يبدأ بالجار الأقرب فالأقرب ، فإن رجح الأبعد في الجيران على الأقرب مع التساوي في الحاجة فقد اتبع هواه ، وما وقف عند حد ربه ، وهذا سار في جميع أفعال البر ، وسبب ذلك الغفلة عن الله تعالى ، فأمر العبد بالصفة التي تحضره مع الله وهي الصلاة ، فهي مناجاة العبد لربه ، وتشير هذه الآية إلى توبيخ الله لمن أمر غيره بإقامة الصلاة ، وإتمام نشأتها ونسي نفسه ، وجعله إياه بمنزلة من لا عقل له. والبر من جملة أحوال الصلاة فإن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : أقرت الصلاة بالبر والسكينة (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) فإنكم تجدون فيه قوله (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) وهذه حالة من أمر بالبر غيره ونسي نفسه ، فالغافل القليل الحياء من الله يأمر غيره بالطاعات وهو على الفجور ، وينسى نفسه فلا يأمرها بذلك (أَفَلا تَعْقِلُونَ) يقول : أما لكم عقول تنظرون بها قبيح ما أنتم عليه؟ فإذا قلت خيرا ، أو دللت على خير ، فكن أنت أول عامل به ، والمخاطب بذلك الخير ، وانصح نفسك فإنها آكد عليك ، فإن نظر الخلق إلى فعل الشخص أكثر من نظرهم إلى قوله ، والاهتداء بفعله أعظم من الاهتداء بقوله ، فإن الله تعالى يقول في نقصان عقل من هذه صفته : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
____________________________________
بالإحسان إليه فقد أحسن لنفسه ، والأمر بالإحسان من الإحسان ، فقال تعالى منكرا على من يأمر بالإحسان ولا يأتيه (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ) أي غيركم (بِالْبِرِّ) بالأفعال الحسنة (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) أي وتتركون أنفسكم ، يقول : ألا تأمرون أنفسكم بالفعل الحسن (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) أي تجدون في الكتاب إذا قرأتموه أنكم مخاطبون بأن تأتوا البر في كل حال ، (أَفَلا