الدنيا آجالا ننتهي إليها ، ثم ننتقل إلى موطن آخر يسمى آخرة ، فيها ما في هذه الدار الدنيا ، ولكن متميز بالدار كما هوهنا متميز بالحال ، ولم يجعل لإقامتنا في تلك الدار الآخرة أجلا تنتهي إليه مدة إقامتنا ، وجعل تلك الدار محلا للتكوين دائما أبدا إلى غير نهاية ، وبدل الصفة على الدار الدنيا فصارت بهذا التبديل آخرة والعين باقية (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) لما قال تعالى في حق أهل الشقاء : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) ما قال إن الحال التي هم فيها لا تنقطع كما قال في السعداء والذي منع من ذلك قوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وقوله : «إن رحمتي سبقت غضبي» في هذه النشأة فإن الوجود رحمة في حق كل موجود ، وإن تعذب بعضهم ببعض ، فتخليدهم في حال النعيم غير منقطع ، وتخليدهم في حال الانتقام موقوف على الإرادة ، فقد يعود الانتقام منهم عذابا عليهم لا غير ويزول الانتقام ، ولهذا فسره في مواضع بالألم المؤلم وقال : (عَذابٌ أَلِيمٌ) و (الْعَذابَ الْأَلِيمَ) وفي مواضع لم يقيد العذاب بالأليم وأطلقه فقال : (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) يعني وإن زال الألم وقال : (فِي عَذابِ جَهَنَّمَ) ولم ينعته بأنه أليم.
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (٨٧)
(وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي قويناه فإن الخوف مما تطلبه حكم الطبيعة في هذه النشأة ، فإن لها خورا عظيما لكونها ليس بينها وبين الأرواح التي لها القوة والسلطان عليها واسطة
____________________________________
الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) يعني ما عصموا به دماءهم وأموالهم من كلمتي الشهادة ، فكانوا في الدنيا معافين ، والكفار بالجزية ، فاشتروا عافية الدنيا وتركوا عافية الآخرة ، وقد تقدم معنى ذلك في تفسير (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) في أول السورة ، قال (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) إذ لم يعملوا ما يوجب لهم التخفيف عنهم من ذلك (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ولا لهم ناصر ينصرهم ، ثم قال (٨٨) (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني التوراة (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) يقول بعد موت موسى