(بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١١٢)
اعلم أن الإحسان أعلى درجة في الإيمان ، وأعلى الإحسان المشاهدة ، وأدناه المراقبة ، والمحسن قد تحقق الصدق في دعوى قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) والصدق في هذه الدعوى إنما يكون بالإخلاص لله سبحانه وحده ، فقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) خطاب لموجود يشاهد مع العبادة ، ويراقب مع الاستعانة ، لأننا مع المشاهدة نرى أفعال الله تعالى فينا وفي غيرنا ، ومع المراقبة نعلم أنه الذي أسمعنا ما نسمعه في أنفسنا ومن غيرنا ، وهو الذي أوجد حركاتنا وحركات غيرنا وسكناتهم ، فالمشاهدة على هذا رؤية تقع موقع العيان ، والمراقبة رؤية قلب ، ولا تتحقق العبادة والاستعانة إلا ممن يعرف المشاهدة والمراقبة ، فمن أسلم وآمن وأحسن فقد عرف معالم الدين الذي نزل به جبريل على النبي صلىاللهعليهوسلم ، ليعلم الأمة معالم دينهم ، ولا يظفر بهذه الصفة إلا من أسلم وجهه لله وهو محسن.
____________________________________
تعالى أخبر أن ذلك من أمانيهم ، فشرحنا لكلام الله ، فهو شرح الشرح ، لعلمنا بأن الله صادق فيما يخبر به ، ولا حجة لهم ولا برهان على صدق ما أخبروا به ، ثم أكذبهم الله فقال : (١١٣) (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) قوله : (بَلى) إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ، ولم يقل سبحانه إن اليهود والنصارى لا يدخلون الجنة ، فإن اليهود والنصارى الذين آمنوا بنبيهم وأسلموا لله وأحسنوا وماتوا قبل بعث محمد صلىاللهعليهوسلم إنهم يدخلون الجنة ، فلهذا أضرب عن تعيين طائفة بعينها منا أو منهم ، وأتى بمن لفظة عامة ، تعم كل من عينه الوصف الذي وصفت به من إسلام الوجه لله والإحسان ، فكأنه يقول ليهود المدينة القائلين هذا والنصارى : إنما يدخل الجنة من كان بهذه الصفة ، وهم أعلم بنفوسهم ، هل هم بهذه الصفة أم لا ، وقوله : (فَلَهُ) الفاء جواب من ، والضمير يعود عليه ، «وأسلم» بمعنى انقاد و «وجهه» عينه وذاته «لله» من أجل الله ، أي لأمر الله حيث أمره (وَهُوَ مُحْسِنٌ) يعني في انقياده ، وهو أن يعبد الله كأنه يراه ، وقد يخرج محسن على إتيان مكارم الأخلاق (فَلَهُ أَجْرُهُ) على عمله ذلك الذي فرض له ، سواء طلبه أو لم يطلبه (عِنْدَ رَبِّهِ) (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) قد تقدم شرحه في أول السورة (١١٤) (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) الآية ، يتوجه في هذه المقالة ثلاثة أوجه ،