لا يقال فيه إنه ميت ولا يحسب أنه ميت ، بل هو حي بالخبر الإلهي الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولكن الله أخذ بأبصارنا عن إدراك الحياة القائمة به كما أخذ بأبصارنا عن إدراك أشياء كثيرة ، كما أخذ أيضا بأسماعنا عن إدراك تسبيح النبات والحيوان والجماد وكل شيء ، ولذلك قال تعالى : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) بحياتهم ، كما يحيي الميت عند السؤال ونحن نراه من حيث لا نشعر ، ونعلم قطعا أنه يسأل ، ولا يسأل إلا من يعقل ، ولا يعقل إلا من هو موصوف بالحياة ، فنهينا أن نقول فيهم أموات ، وأخبرنا أنهم أحياء ولكن لا نشعر.
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (١٥٥)
الجوع بئس الضجيع ، وهذه كلها أسباب بلاء يبتلي الله به عباده حتى يعلم الصابرين منهم ، وهو العالم بالصابر منهم وغير الصابر ثم قال : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) على ما ابتليتهم به من ذلك ، فحبسوا نفوسهم عند الحدود ولم يتعدوها مطلقا.
____________________________________
كون الإنسان حيا كونه مجتمع الأجزاء على هيئة مخصوصة ، أو ذا دم سائل أو ذا نفس ، وإنما يلزمه قيام الحياة به مجتمع الأجزاء كان أو مفرق الأجزاء وغير ذلك ، ولا يلزم لروحه أن لا تدبر هذه الأجزاء إلا على هذه الهيئة المخصوصة ، بل يجوز أن تدبرها على غير هذه الهيئة ، ولا يلزم من قيام الحياة به أن ندرك كونه حيا ، فإن الحياة ليست من إدراك الحواس ، وإذا تقرر هذا ، فقد يكون الشهيد في سبيل الله حيا ولا نشعر بذلك ، لوقوفنا مع العادة في عدم الحركة والتنفس من المقتول ، فقال تعالى في حق الشهداء في سبيل الله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) أي لا تعلمون بحياتهم على العادة التي عهدتموها ، يقوي بذلك نفوس المؤمنين الذين قال لهم : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) فإن قتلتم فإلينا تنقلبون أحياء لا تموتون ، إذ كان الخوف من الموت عند اليأس أشد الخوف ، فأمنهم الله من ذلك ، ولما قال قائل ، إنما نهينا أن نقول خاصة ، قلنا في قوله : (بَلْ أَحْياءٌ) جوابك ، ثم زاد الله في بيان ذلك قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) أي كما قلت لك لا تقل إنهم أموات ، لا تعتقد أيضا أنهم أموات ، والعلم ليس محله اللسان مثل قوله ، فنهينا عن الأمرين عن القول والاعتقاد ، ثم قال : (١٥٦) (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) الآية ، وذلك أنه سبحانه لما أمر المؤمنين بالصبر على أذى نفسي