وما أصابت المصائب من أصابته إلا جزاء بما كسبت يده ، مع كونه يعفو عن كثير ، وكذلك ما ظهر من الفتن والخراب والحروب والطاعون ، فهو كله جزاء أعمال عملها الناس ، استحقوا بذلك ما ظهر من الفساد في البر والبحر فهو جزاء في الدنيا ، فيوم الدنيا يوم الجزاء ويوم الآخرة هو يوم الجزاء ، غير أنه في الآخرة أشد وأعظم ، لأنه لا ينتج أجرا لمن أصيب وقد ينتج في الدنيا أجرا لمن أصيب وقد لا ينتج ، ومن الجزاء في الدنيا مجازاة أهل الشقاء بما عملوا من مكارم الأخلاق في الدنيا ، بما أنعم الله به عليهم من النعم حتى انقلبوا إلى الآخرة وقد جنوا ثمرة خيرهم في الدنيا ، فلو لم تكن الدنيا دار جزاء ما كان هذا ، فلا اختصاص ليوم الدين بيوم عند العلماء بالله ، أقام لهم الحق في ذلك دليلا لما جهلوا (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) فأخبر أنه جزاء ما هو ابتداء ، فما ابتليت البرية وهي برية ، وهذه مسألة صعبة المرتقى لا تنال إلا بالإلقا ، اختلفت فيها طائفتان كبيرتان (الأشاعرة والمعتزلة) ، فمنعت واحدة ما أجازته أخرى والرسل بما اختلفت فيه تترى ، ولا تحقق واحد ما جاء به الرسول ، ولا يسلك فيه سواء السبيل ، بل ينصر ما قام في غرضه وهو عين مرضه ، إلا الطبقة العليا فإنهم علموا الأمور في الدنيا فلم يتعدوا بالأمر مرتبته ، وأنزلوه منزلته ، فما رأوا في الدنيا أمرا إلا كان جزاء ما كان ابتداء ،
____________________________________
والآخرة ، لأنه المجازي في الدنيا والآخرة ، فأما في الآخرة فمعلوم عند الجميع ، وأما في الدنيا فبما شرع من إقامة الحدود جزاء لأعمال نص عليها ، كالزنا والسرقة والمحاربة وغير ذلك ، وبما شرع من مكافأة المحسن وشكر المنعم ، وبما أخبر عليهالسلام من جزاء الله تعالى الكافر في الدنيا بما فعله من الخير ، وهذا يدلك على أن الكل مخاطبون بفروع الشريعة ، مؤاخذون بها مجازون عليها ، كما خوطبوا بأصولها سواء ، وأن الشرائع قد عمت جميع الخلق من آدم إلى نبينا محمد صلى الله عليهما ، قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وقال (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) وقال : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) ، وكل نذير من جنس من بعث إليه (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) و (لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) يعني من جنسهم ، فالجزاء محقق في الدنيا والآخرة ، وقد قال تعالى (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) وجعله جزاء ، وقال : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وهذا هو الجزاء ، فمن خصه بيوم الآخرة فما أعطى الآية حقها ، يقول العبد في الصلاة (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يقول الله (فوض إليّ