فأحاله الله على الكيفية بالطيور الأربعة ، التي هي مثال الطبائع الأربع فقال : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) إخبارا بأن وجود الآخرة طبيعي ، يعني حشر الأجساد الطبيعية ، إذ كان ثمّ من يقول لا تحشر الأجسام وإنما تحشر النفوس بالموت إلى النفس الكلية مجردة عن الهياكل الطبيعية ، فأخبر الله إبراهيم أن الأمر ليس كما زعم هؤلاء ، فأحال على أمر موجود عنده تصرف فيه ، إعلاما أن الطبائع لو لم تكن مشهودة معلومة مميزة عند الله لم تتميز ، فما أوجد العالم الطبيعي إلا من شيء معلوم عنده مشهود له ، نافذ التصرف فيه ، فجمع بعضها إلى بعض ، فأظهر الجسم على هذا الشكل الخاص ، فأبان لإبراهيم بإحالته على الأطيار الأربعة وجود الأمر الذي فعله الحق في إيجاد الأجسام الطبيعية والعنصرية ، إذ ما ثمّ جسم إلا طبيعي أو عنصري ، فأجسام النشأة الآخرة في حق السعداء طبيعية ، وأجسام أهل النار عنصرية ، فالأربعة الطبيعية الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، والأربعة العنصرية هي النار والهواء والماء والتراب ، وأما حشر الأرواح التي يريد أن يعقلها إبراهيم من هذه الدلالة التي أحالها الحق عليها في الطيور الأربعة ، فهي في الإلهيات كون العالم يفتقر في ظهوره إلى إله قادر على إيجاده ، عالم بتفاصيل أمره ، مريد إظهار عينه ، حي لثبوت هذه النسب التي لا تكون إلا لحي ، فهذه أربعة لا بد في الإلهيات منها ، فإن العالم لا يظهر إلا ممن له هذه الأربعة ، فهذه دلالة الطيور له عليهالسلام في الإلهيات في العقول والأرواح وما ليس بجسم طبيعي ، كما هي دلالة على تربيع الطبيعة لإيجاد الأجسام الطبيعية والعنصرية (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي ضمهن ، والضم جمع عن تفرقة ، وبضم بعضها إلى بعض ظهرت الأجسام (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) وهو ما ذكرناه من الصفات الأربع الإلهيات ، وهي أجبل لشموخها وثبوتها (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) وما كان أذهب منهن شيئا إلا فساد عين التركيب ، وأما الأجزاء فهي باقية بأعيانها ، ولا يدعى إلا من يسمع وله عين ثابتة ، فأقام له الدعاء بها مقام قوله كن من قوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فلما أشهد الله خليله إبراهيم عليهالسلام الكيفية سكن عما كان يجده من القلق لتلك الجذبات التي للوجوه المختلفة ، وسكن سكونا لا يشوبه تحير ولا تشويش في معرفة الكيفية ، وزاد يقينه طمأنينة بعلمه بالوجه الخاص من الوجوه الإمكانية ، وهنا دقيقة ، وهي أن تعلق القدرة الأزلية بالإيجاد حارت فيها المشاهد والعقول ، وقد قال تعالى لإبراهيم عليهالسلام حين قال :