والثاني قرب اعتناء وكرامة ، فالقرب الأول قرب رحم ونسب ، لو أراد الدافع أن يدفعه لم يستطع ، لأنه لذاته هو قرب ، وقرب الاختصاص قرب المكانة من السلطان ، والمسيح كل من مسح أرضه بالمشي فيها ، والسياحة في نواحيها ليرى آثار ربه :
(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٤٦)
كان كلام عيسى عليهالسلام في المهد دلالة على براءة أمه مما نسب إليها :
(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٧)
وقال تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وأصمنا الحق عن إدراك هذا القول إلا بطريق الإيمان ، وأعمانا عن توجهه على إيجاد الأشياء ، بما نصب من الأسباب ، فيحتاج السمع إلى شق هذه الحجب حتى يسمع قول كن ، فخلق في المؤمن قوة الإيمان ، فسرت في سمعه فأدرك قول كن ، وسرت في بصره فشاهد المكون للأسباب :
(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٤٩)
هذه الآية دالة على أنه ما من موجود خلقه الله عند سبب إلا بتجل إلهي خاص لذلك الموجود ، لا يعرفه السبب ، فيتكون هذا الموجود ، وهو قوله سبحانه وتعالى : (فَأَنْفُخُ فِيهِ) فلم يكن للسبب غير النفخ (فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) فالطائر إنما كان لتوجه أمر الله عليه بالكون ، وهو قوله تعالى (كُنْ) بالأمر الذي يليق بجلاله ، فالعامل في قوله تعالى (بِإِذْنِ