درجات : أولها إيمان العوام ، وهو الاعتقاد الصحيح السليم الذي هو أصل الصراط المستقيم ، ووسطاها سرايتها في النفس وجميع قواها وآلاتها البدنية واستصحابها مع كل حركة وسكنة قولا وفعلا ، وثمرة ذلك الائتمار لجميع الأوامر والانتهاء عن جميع النواهي ظاهرا وباطنا ، وقوله صلىاللهعليهوسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن «الحديث» من هذه المرتبة الوسطى الإيمانية ، فإنه نفى الإيمان عمن لم يستصحبه في جميع حركاته وسكناته ، ولو صحبه حال فعل الزنا والسرقة باستحضار الحق تعالى ولزوم أوامره ونواهيه لما أقدم على ذلك ، فكان الإيمان المنفي من هذه المرتبة الوسطى لا الأعلى والأدنى ، وأعلى مراتب الإيمان ظهور عروقه الكلية الضاربة إلى الروح الروحانية ، وثمرة ذلك تعديل الأخلاق وتبديلها ، أو صرفها فيما ظهر حسنا جميلا بالنسبة إلى تلك المصارف ، ويؤول الأمر من هذه المرتبة إلى أن تزول الحجب كلها أو أكثرها ، ويظهر القلب فتصحو سماؤه عن غمام الشك والريب ، وتنجلي فيه آيات الرب تعالى وتقدس ، ويصير الإيمان إحسانا ، ويعود الكشف عيانا ، وهنالك الولاية لله الحق ، فدخل في مرتبة الإحسان ، واعلم أيدك الله أن الإيمان بمعناه اللغوي ، الذي هو إعطاء الأمان ، إنما يتعدى بنفسه فيقال : «آمنته» وأما ما يتضمن معنى التصديق والاعتراف الباطن فيعدى بالباء ، كقوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وذلك باطنه المتعلق بالقلب وهو الأصل ، وأما ما يتضمن معنى الانقياد والاستسلام المتعلق بالنفس فيعدى باللام كقوله عزوجل (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) فالذي يقبل التشعب والانقسام والزيادة والنقصان من هذا النور إنما هو الظاهري المعدّى باللام ، الذي هو حقيقة الإسلام لا الباطن المعدى بالباء الذي هو الأصل الذي تفرعت منه الأغصان ، والتشعب المذكور في الحديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من شعب الإيمان) وقد ذكر الإمام أبو القاسم الراغب في ذريعته في معنى انقسام الإيمان المذكور في هذا الحديث كلاما بليغا ، وحصر شعبه في اثنين وسبعين شعبة ، وحاصل كلامه : أن الإيمان شيئان ، تصديق وأعمال ، فالتصديق على ثلاث مراتب : أعلى وهو المراد بقوله (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) وأوسط وهو الظن المقارب لليقين بسبب
____________________________________
فإذا وردت عليه صدّقت به ، فهو قوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وهو ما وقع به الإخبار من الله