قال تعالى (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) ولهذا الاحتراز والاحتياط يحمل الأمر الإلهي ـ إذا ورد معرى عن قرائن الأحوال التي يفهم منه الندب أو الإباحة ـ على الوجوب ، ويحمل النهي كذلك على الحظر إذا تعرى عن قرينة حال تعطيك الكراهة ، ولا تتوقف عن حمل الأمر والنهي على ما قلناه ، إلا بقرينة حال تخرجهما عن حكم الوجوب في الأمر ، وحكم الحظر في النهي. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فرضا كان أو تطوعا ، فالفرض من ذلك قد عين الله أصنافه ، ورتّبه على نصاب وزمان معين ، والتطوع من ذلك لا يقف عنده شيء ، وجعله تعالى إنفاقا لأنه له وجه ونسبة إلى الحق ، ووجه ونسبة إلى الخلق ، لأنه من النفق وهو جحر اليربوع ويسمى النافقاء ، له بابان إذا طلب من باب ليصاد خرج من الباب الآخر ، كالكلام المحتمل إذا قيدت صاحبه بوجه ، أمكن أن يقول لك إنما أردت الوجه الآخر من محتملات اللفظ. ورد أن الصدقة تقع بيد الرحمن قبل وقوعها بيد السائل فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ، فهذه نسبة إلهية مع الغنى المطلق الذي يستحقه ، والنسب الإلهية لا ينكرها إلا من ليس بمؤمن خالص ، فإن الله يقول : (وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً) واليد العليا هي المنفقة ، فهي خير بكل وجه من اليد السفلى التي هي الآخذة ، فلما كان العطاء له نسبة إلى الحق والغنى ، ونسبة إلى الخلق والحاجة سماه الله إنفاقا ، فالعلماء ينفقون بالوجهين فيرون الحق فيما يعطونه معطيا وآخذا ، ويشاهدون أيديهم هي التي يظهر فيها العطاء والأخذ ، ولا يحجبهم هذا عن هذا ، والمعطي بحق والآخذ بحق ليسا على السواء في المرتبة ولا في الاسم ولا في الحال.
____________________________________
التوحيد ، وتلك السابقة. وهذه متأخرة عنها ، تأخر المصلي عن السابق في الحلبة ، فإنه يليه ، في الحديث الصحيح (بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة) فأتى بها ثانية تابعة بلفظة الإقامة ، وهكذا جاءت هنا (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) وإذا وقع الإيمان بالله ، فليس من حيث الدليل ، وإنما هو من حيث ما جاء به الخبر من قوله : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وشبه ذلك ، فصدّقنا قوله ، فذلك التصديق هو الإيمان ، وهو نور يقذفه الله في قلب من شاء من عباده ، قوله تعالى (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) من هنا للتبيين ، ولها وجه إلى التبعيض ، والآية وردت على جهة المدح بصفة الكرم ، فعلى هذا سواء كان ذلك الرزق حراما أو حلالا ، ومن حمل الرزق على أنه الحلال خاصة وهو قوله تعالى (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)