(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٦)
(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) : أي باعوا الهدى بالضلالة ، واشتروا الحيرة بالبيان فخسروا. (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) المؤمن ممدوح في القرآن بالتجارة والبيع فيما يملك بيعه ، قال تعالى : (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) وقال تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) وما صرح الله في المؤمن بأنه يشتري خاصة ، وما وصف الشراء في القرآن إلا من أشهدهم الله عن جناية فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) والسبب في أن المؤمن ما وصفه الله بالشراء فإنه خلقه الله ، وملكه جميع ما خلق الله في أرضه الذي هو مسكنه ومحله (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) فجميع ما في الأرض ملكه فما بقي له ما يشتريه ، وحجر عليه الضلالة وهي صفة عدمية ، فإنها عين الباطل وهو عدم ، ولم يأمرنا الله باتباعه فإذا اشترينا الضلالة فقد اخترنا العدم على الوجود ، والباطل على الحق الذي خلقنا له ، فلم يوصف المؤمن بالشراء ، وشرع له البيع فيما أبيح له بيعه ، ومما ملكه الله ما هو مباح له ، وما هو واجب عليه أن لا يخرجه ولا يبيعه ، فكأن المؤمن ملك حلة الإباحة ، وحلة الوجوب ، فخلع عن نفسه حلة الإباحة ، ولبس حلة الوجوب ، وكلاهما له ، فسمى خلعه لها بيعا ، وما سمى لباسه للوجوب شراء ، فإنها ملكه ورحله ومتاعه والإنسان لا يشتري ما يملكه ، ولما حجر الله الضلالة على خلقه ورجح من
____________________________________
قوله (١٧) (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) الآية ، أولاء حرف إشارة ، أشار بها إلى كل من تقدم ذكره من منافق وكافر ، وأما إخبار الله تعالى عنهم أنهم (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) دل على أنه كان عندهم هدى باعوه بهذه الضلالة ، وأن الذين اشتروا منهم الهدى كان عندهم ضلالة ، فالترجمة عن ذلك ، كل مولود يولد على الفطرة ، وأبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، والفطرة التي فطر الناس عليها هي الإقرار منهم لله بالربوبية عليهم في قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) فهذا هو الهدى ،