في ظلمات لا يبصرون. فأصحاب الشهوات في هذه الظلمات تائهون ، كما أن أصحاب الحضور التام في الأنوار ينعمون.
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨)
وصف الحق هؤلاء الناس بذلك الوصف فهم صم وإن كانوا يسمعون ، بكم وإن كانوا يتكلمون ، عمي وإن كانوا يبصرون ، صم عن سماع ما ذكرهم الله به ، بكم عن الكلام بالحق ، عمي عن النظر في آيات الله ، فهم صم فلم يسمعوا فلم يرجعوا ، فإنهم لم يعقلوا ما سمعته آذانهم ، وما سمع من سمع منهم إلا دعاء ونداء ، وهو قوله : يا فلان وما سمع أكثر من ذلك (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) لما سمعوا ، ولا يرجعون في الاعتبار إلى ما أبصروا ، ولا في الكلام إلى الميزان الذي به خوطبوا ، فلا يرجعون عندما يبصرون ، ولا يعقلون عندما يسمعون ، ولا يصيبون عندما يتكلمون.
____________________________________
الجنة ، ومنه (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي الوصف ، فقال : مثلهم إذا لقوا المؤمنين ـ قد يمكن أن يكون اللقاء هنا منهم عن قصد ـ ليؤكدوا عندهم إيمانهم ، فإن المؤمن الحقيقي يدل بإيمانه ، والذي في قلبه خلاف ما تلفظ به يتخيل أنه يطّلع على ما في باطنه ، فتراه أبدا يحرص على إظهار الإيمان ابتداء من غير استدعاء ، ليؤكد عند السامع أنه بتلك الصفة ، وإن كان من لقيك فقد لقيته ، ولكن ما قال : إذا لقيهم المؤمنون ، ويؤكد ما ذهبنا إليه ما ذكره في التشبيه في قوله (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) وما قال : كمثل الذي وجد نارا ، والوقود من الواقد لا يكون إلا بقصد ، فلهذا رجحنا أن اللقاء كان عن قصد لما ذكرناه ، فقال تعالى : مثلهم إذا لقوا المؤمنين كمثل من استوقد نارا ، أي أوقد ، أو طلب وقود نار ، وهو ما يشرعون فيه مع المؤمنين إذا لقوهم من قولهم (آمَنَّا) فما داموا مجتمعين على ذكر الإيمان وفضائله ، هو قوله (أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) في التشبيه وقال : ما حوله ولم يقل فيه ، لأنه ما عنده من الإيمان إلا ذكره ، ليس فيه منه شيء ، ولذلك عصم ظاهره ، فإنه حوله ، ولم يعصم باطنه ، فإنه ليس فيه إيمان ، ثم شبه انصراف المؤمنين عنهم فينصرف نور ذكر الإيمان لانصرافهم بقوله (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ثم شبه رجوعهم إلى أنفسهم وشياطينهم من أمثالهم بقوله (وَتَرَكَهُمْ) يعني المنافقين بانصراف النور عنهم (فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) يقول في طغيانهم لا يهتدون ، لأنه من لا يبصر لا يهتدي ، ولا يعلم ما حدث له في طريقة ، ثم قال (١٩) (صُمٌّ) عن سماع داعي الحق (بُكْمٌ) لا يتكلمون في حق (عُمْيٌ)