(يا أَيُّهَا) إذا أيه الله بأحد في كتابه فكن أنت ذلك المؤيه به ، فإن أخبر فافهم واعتبر ، فإنه ما أيه بك إلا لما سمعت ، وإن أمرك أو نهاك فامتثل ، وما ثم قسم رابع ، إنما هو خبر أو أمر أو نهي ، وأنزله تعالى في خطابه إياك منزلة الأم في الشفقة ، فتلقّى منه بالقبول ما يورده عليك ، فإنه ما خاطبك إلا لينفعك ، وكن أنت المخاطب في خطاب الحق بسمعك لا بسمع الحق ، فإنه لا يأمر نفسه ولا ينهاها (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي الأسباب التي وجدتم عندها (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ثم قال لمن يرى أنا وجدنا بالأسباب لا عندها.
____________________________________
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) نادى الشاردين من عباده الذين تمادوا في إعراضهم عن توحيد خالقهم ، فإن لفظة «يا» في النداء وضعت للبعد ، وكذلك (أيا) و (هيا) كما أن الهمزة وأي للقرب ، وأي حرف مبهم ، والهاء للتنبيه ، ولا بد من مفسّر يأتي بعد «يا أيها» فكان الناس هنا ، فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أي تذللوا وأطيعوا مصلحكم ومربيكم ، تعريفا بالنعم (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أوجدكم (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وخلق من قبلكم ، فذكر الخلق تنبيها لاعتكافهم على عبادة آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ، قال تعالى (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ، فلما تمدح بالخلق دل من مضمون الكلام أن لا خالق للأشياء كلها إلا هو ، من أفعال العباد وغيرها ، ولو كانت أفعال العباد خلقا لهم ، لم يكن ذكره للخلق تمدحا خاصا لوقوع الاشتراك ، فتحقق مذهب أهل الحق في أن لا موجد ولا فاعل إلا هو ، وقوله (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي أنها مخلوقة له أيضا تأكيد لما ذكرناه ، ومن قبلنا كل من تقدمنا في الخلق من مخلوقات الله ، من عقول ونفوس وأجسام وجسمانيات ، فإن كثيرا من الناس يضيفون الأفعال بطريق الإيجاد إلى نفوس الأفلاك والعقول ، فبيّن الله أن الكل من خلقه ، ثم قال (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لعل كلمة ترج وتوقع ، وكذلك عسى ، وهي من الكرماء واجبة ، والله أكرم الأكرمين ، والعامل في هذا الترجي عند الجماعة (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) وما بعده ، وفيه بعد لغموضه وما يحتاج إليه من التقدير فيه ، والأظهر عندي أن ضرب الأمثال المتقدمة تطلبه بقرائن الأحوال ، ومدلول المعاني وسياق الكلام ، أي ضربنا لكم هذه الأمثال لعلكم تتقون ، أي تحذرون وتخافون ، فيردكم حذركم إلى الحق ، فيطابق معنى التقوى ، ولا يظهر مثل هذا في قوله (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) ولا سيما ويأتي بعد تتقون ما يناسب الأول ، وهو قوله (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) إلى