فقال : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) ، المراد بالفتح هنا هو : فتح الحديبية حين جرى من الصلح بين الرسول وبين قريش مما هو أعظم الفتوحات الّتي حصل فيها نشر الإسلام ، واختلاط المسلمين بالكافرين ، والدعوة إلى الدين من غير معارض ، فدخل الناس من ذلك الوقت في دين الله أفواجا واعتز الإسلام عزا عظيما. وكان المسلمون قبل هذا الفتح لا يقدرون على الدعوة إلى الدين في غير البقعة الّتي أسلم أهلها ، كالمدينة وتوابعها. وكان من أسلم من أهل مكة وغيرها ، من ديار المشركين ، يؤذى ويخاف ، فلذلك كان من أسلم قبل الفتح وقاتل ، أعظم درجة وأجرا وثوابا ممن لم يسلم ويقاتل وينفق إلا بعد ذلك ، كما هو مقتضى الحكمة ، ولهذا كان السابقون وفضلاء الصحابة ، غالبهم أسلم قبل الفتح. ولما كان التفضيل بين الأمور قد يتوهم منه نقص وقدح في المفضول ، احترز تعالى من هذا بقوله : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) ، أي : الّذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده ، كلهم وعده الله الجنة ، وهذا يدل على فضل الصحابة كلهم ، رضي الله عنهم ، حيث شهد الله لهم بالإيمان ، ووعدهم الجنة. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازي كلا منكم ، على ما يعمله من عمله.
[١١] ثمّ حث على النفقة في سبيله ، لأن الجهاد متوقف على النفقة فيه ، وبذل الأموال في التجهز له ، فقال : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) وهي : النفقة الطيبة الّتي تكون خالصة لوجه الله ، موافقة لمرضاة الله ، من مال حلال طيب ، طيبة به نفسه ، وهذا من كرم الله تعالى حيث سماه قرضا ، والمال ماله ، والعبيد عبيده ، ووعد بالمضاعفة عليه أضعافا كثيرة ، وهو الكريم الوهاب. وتلك المضاعفة ، محلها ومواضعها ، يوم القيامة يوم يتبين كلّ إنسان فقره ، ويحتاج إلى أقل شيء من الجزاء الحسن ، ولهذا قال : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ) ، إلى : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
[١٢] يقول تعالى ـ مبينا لفضل الإيمان واغتباط أهله به يوم القيامة ـ : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) ، أي : إذا كان يوم القيامة ، وكورت الشمس ، وخسف القمر ، وصار الناس في الظلمة ، ونصب الصراط على متن جهنم ، فحينئذ ترى المؤمنين والمؤمنات ، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ، فيمشون بإيمانهم ونورهم ، في ذلك الموقف الهائل الصعب ، كل على قدر إيمانه ، ويبشرون عند ذلك ، بأعظم بشارة ، فيقال : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). فلله ما أحلى هذه البشارة بقلوبهم ، وألذها لنفوسهم ، حيث حصل لهم كل مطلوب محبوب ، ونجوا من كلّ شر ومرهوب.
[١٣] فإذا رأى المنافقون المؤمنين يمشون بنورهم ، وهم قد طفىء نورهم ، وبقوا في الظلمات حائرين ، قالوا للمؤمنين : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) ، أي : أمهلونا ، لننال من نوركم ما نمشي به ، لننجو من العذاب. (قِيلَ) لهم : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) ، أي : إن كان ذلك ممكنا ، والحال أن ذلك غير ممكن ، بل هو من المحالات. (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ) ، أي : بين المؤمنين والمنافقين (بِسُورٍ) ، أي : حائط منيع ، وحصن حصين. (لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) ، وهو الذي يلي المؤمنين ، (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) وهو الذي يلي المنافقين.
[١٤] فينادي المنافقون