(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٤٤). وقال شعيب عليهالسلام : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ).
[٤] هذا حث من الله لعباده على الجهاد في سبيله صفا متراصا متساويا ، من غير خلل يحصل في الصفوف ، وتكون صفوفهم على نظام وترتيب ، به تحصل المساواة بين المجاهدين والتعاضد وإرهاب العدو ، وتنشيط بعضهم بعضا. ولهذا كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا حضر القتال ، صف أصحابه ، ورتبهم في مواقفهم ، بحيث لا يحصل اتكال بعضهم على بعض ، بل تكون كلّ طائفة منهم مهتمة بمركزها ، وقائمة بوظيفتها ، وبهذه الطريقة تتم الأعمال ، ويحصل الكمال.
[٥] أي : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) موبخا لهم على صنيعهم ، ومقرعا لهم على أذيته ، وهم يعلمون أنه رسول الله : (لِمَ تُؤْذُونَنِي) بالأقوال والأفعال (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ). والرسول من حقه الإكرام والإعظام ، والقيام بأوامره ، والابتدار لحكمه. وأما أذية الرسول الذي إحسانه إلى الخلق ، فوق كلّ إحسان ، بعد إحسان الله ، ففي غاية الوقاحة والجراءة ، والزيغ عن الصراط المستقيم ، الذي قد علموه وتركوه ، ولهذا قال : (فَلَمَّا زاغُوا) ، أي : انصرفوا عن الحقّ بقصدهم (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عقوبة لهم على زيغهم ، الذي اختاروه لأنفسهم ، ورضوه لها ، ولم يوفقهم الله للهدى ، لأنهم لا يليق بهم الخير ، ولا يصلحون إلّا للشر. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ، أي : الّذين لم يزل الفسق وصفا لهم ، ليس لهم قصد في الهدى. وهذه الآية الكريمة ، تفيد أن إضلال الله لعبيده ، ليس ظلما منه ، ولا حجة لهم عليه ، وإنّما ذلك بسبب منهم ، فإنهم الّذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما عرفوه ، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلال والزيغ وتقليب القلوب ، عقوبة لهم وعدلا منه بهم ، كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١٠).
[٦] يقول تعالى مخبرا عن عناد بني إسرائيل المتقدمين ، الذي دعاهم عيسى ابن مريم ، وقال لهم : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) ، أي : أرسلني الله لأدعوكم إلى الخير ، وأنهاكم عن الشر ، وأيدني بالبراهين الظاهرة ، ومما يدل على صدقي ، كوني (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) ، أي : جئت بما جاء به موسى من التوراة ، والشرائع السماوية. ولو كنت مدعيا للنبوة ، غير صادق في دعواي ، لجئت بغير ما جاء به المرسلون ، ومصدقا لما بين يديّ من التوراة أيضا ، أنها أخبرت بي وبشرت ، فجئت وبعثت مصدقا لها (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ، وهو : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي. فعيسى عليه الصلاة والسلام كسائر الأنبياء ، يصدق بالنبي السابق ، ويبشر بالنبي اللاحق ، بخلاف الكذابين ، فإنهم يناقضون الأنبياء أشد مناقضة ، ويخالفونهم في الأوصاف والأخلاق ، والأمر والنهي. (فَلَمَّا جاءَهُمْ) محمد صلىاللهعليهوسلم الذي بشر به عيسى (بِالْبَيِّناتِ) ، أي : الأدلة الواضحة ، الدالة على أنه هو ، وأنه رسول الله حقا. (قالُوا) معاندين للحق مكذبين له : (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، وهذا من أعجب العجائب. الرسول الذي قد وضحت رسالته ، وصارت أبين من شمس النهار ، يجعل ساحرا بيّنا سحره ، فهل في الخذلان أعظم من هذا؟ وهل في الافتراء أبلغ من هذا الافتراء ، الذي نفى عنه ما كان معلوما من رسالته وأثبت له ما كان أبعد الناس عنه؟
[٧] (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بهذا أو غيره ، والحال أنه لا عذر له ، وقد انقطعت حجته ، لأنه (يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) ، وتبين له براهينه وبيناته. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الّذين لا يزالون على ظلمهم مستقيمين ، لا تردهم عنه موعظة ، ولا يزجرهم بيان ولا برهان. خصوصا هؤلاء الظلمة القائمين بمقابلة الحقّ ليردوه ، ولينصروا الباطل ، ولهذا قال عنهم :
[٨] (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) ، أي : بما يصدر منهم من المقالات الفاسدة ، الّتي يردّون بها الحقّ ، وهي لا حقيقة لها ، بل تزيد البصير معرفة بما هم عليه من الباطل. (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ، أي : قد تكفل الله بنصر دينه ، وإتمام الحقّ ، الذي أرسل به رسله ، وإظهار نوره في سائر الأقطار ، ولو