كره الكافرون ، وبذلوا بسبب ـ كراهته ـ كل ما قدروا عليه ، مما يتوصلون به إلى إطفاء نور الله ، فإنهم مغلوبون. ومثلهم كمثل من ينفخ عين الشمس بفيه ليطفئها ، فلا على مرادهم حصلوا ، ولا سلمت عقولهم من النقص والقدح فيها.
[٩] ثمّ ذكر سبب الظهور والانتصار للدين الإسلامي ، الحسي والمعنوي فقال ، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) ، أي : بالعلم النافع ، والعمل الصالح. بالعلم : الذي يهدي إلى الله ، وإلى دار كرامته ، ويهدي لأحسن الأعمال والأخلاق ، ويهدي إلى مصالح الدنيا والآخرة. (وَدِينِ الْحَقِ) ، أي : الدين الذي يدان به ، ويتعبد لرب العالمين الذي هو حق وصدق ، لا نقص فيه ، ولا خلل يعتريه ، بل أوامره غذاء القلوب والأرواح ، وراحة الأبدان. وترك نواهيه سلامة من الشر والفساد ، فما بعث به النبي صلىاللهعليهوسلم من الهدى ودين الحقّ ، أكبر دليل وبرهان على صدقه ، وهو برهان باق ، ما بقي الدهر ، كلما ازداد العاقل تفكرا ، ازداد به فرحا وتبصرا. (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ، أي : ليعليه على سائر الأديان ، بالحجة والبرهان ، ويظهر أهله القائمين به ، بالسيف والسنان. فأما نفس الدين ، فهذا الوصف ، ملازم له في كل وقت ، فلا يمكن أن يغالبه مغالب ، أو يخاصمه مخاصم إلّا فلجه ، وصار له الظهور والقهر ، وأما المنتسبون إليه ، فإنهم إذا قاموا به ، واستناروا بنوره ، واهتدوا بهديه ، في مصالح دينهم ودنياهم ، فكذلك لا يقوم لهم أحد ، ولا بد أن يظهروا على أهل الأديان. وإذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد الانتساب إليه ، لم ينفعهم ذلك ، وصار إهمالهم له ، سبب تسليط الأعداء عليهم. ويعرف هذا ، من استقرأ الأحوال والنظر ، في أول المسلمين وآخرهم.
[١٠] هذه وصية ودلالة وإرشاد من أرحم الراحمين لعباده المؤمنين ، لأعظم تجارة ، وأجلّ مطلوب ، وأعلى مرغوب ، يحصل بها النجاة من العذاب الأليم ، والفوز بالنعيم المقيم.
[١١] وأتى بأداة العرض ، الدالة على أن هذا أمر يرغب فيه كلّ معتبر ، ويسمو إليه كلّ لبيب ، فكأنه قيل : ما هذه التجارة الّتي هذا قدرها؟ فقال : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ). ومن المعلوم أن الإيمان التام هو التصديق الجازم بما أمر الله بالتصديق به ، المستلزم لأعمال الجوارح ، الّتي من أجلّها الجهاد في سبيله ، فلهذا قال : (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) ، بأن تبذلون نفوسكم ومهجكم ، لمصادمة أعداء الإسلام ، والقصد : دين الله ، وإعلاء كلمته. وتنفقون ما تيسر من أموالكم في ذلك المطلوب ، فإن ذلك ، وإن كان كريها للنفوس ، شاقا عليها ، فإنه (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، فإن فيه الخير الدنيوي ، من النصر على الأعداء ، والعز المنافي للذل والرزق الواسع ، وسعة الصدر ، وانشراحه. والخير الأخروي ، بالفوز بثواب الله ، والنجاة من عقابه ، ولهذا ذكر الجزاء في الآخرة ، فقال :
[١٢] (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) وهو شامل للصغائر والكبائر فإن الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله ، مكفر للذنوب ، ولو كانت كبائر. (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي : من تحت مساكنها وقصورها ، وغرفها ، وأشجارها ، أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كلّ الثمرات. (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) ، أي : جمعت كلّ طيب ، من علو ، وارتفاع ، وحسن بناء