قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩) ، (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) الآية ، (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) الآية. وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلىاللهعليهوسلم بمكارم الأخلاق ، والآيات الحاثّات على كلّ خلق جميل ، فكان له منها ، أكملها وأجلّها ، وهو في كلّ خصلة منها ، في الذروة العليا. فكان سهلا لينا ، قريبا من الناس ، مجيبا لدعوة من دعاه ، قاضيا لحاجة من استقضاه ، جابرا لقلب من سأله ، لا يحرمه ، ولا يرده خائبا. وإذا أراد أصحابه منه أمرا وافقهم عليه ، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور ، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم ، بل يشاورهم ويؤامرهم. وكان يقبل من محسنهم ، ويعفو عن مسيئهم ، ولم يكن يعاشر جليسا ، إلا أتم عشرة وأحسنها. فكان لا يعبس في وجهه ، ولا يغلظ عليه في مقاله ، ولا يطوي عنه بشره ، ولا يمسك عليه فلتات لسانه ، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة ، بل يحسن إليه غاية الإحسان ويحتمله غاية الاحتمال. فلما أنزل الله نبيه محمدا صلىاللهعليهوسلم في أعلى المنازل ، وكان أعداؤه ينسبون إليه أنه مجنون مفتون ، قال :
[٥ ـ ٦] (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) (٦) ، وقد تبين أنه أهدى الناس ، وأكملهم لنفسه ولغيره. وأن أعداءه أضل الناس ، وشر الناس للناس ، وأنهم الّذين فتنوا عباد الله ، وأضلوهم عن سبيله ، وكفى بعلم الله بذلك ، فإنه المحاسب المجازي.
[٧] (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٧) ، وهذا فيه تهديد للضالين ، ووعد للمهتدين ، وبيان لحكمة الله ، حيث كان يهدي من يصلح للهداية دون غيره.
[٨] يقول الله تعالى لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (٨) الّذين كذبوك ، وعاندوا الحقّ ، فإنهم ليسوا أهلا لأن يطاعوا ، لأنهم لا يأمرون إلا بما يوافق أهواءهم ، وهم لا يريدون إلا الباطل ، فالمطيع لهم مقدم على ما يضره ، وهذا عام في كلّ مكذب ، وفي كلّ طاعة ناشئة عن التكذيب ، وإن كان السياق في شيء خاص ، وهو أن المشركين طلبوا من النبي صلىاللهعليهوسلم أن يسكت عن عيب آلهتهم ودينهم ، ويسكتوا عنه ، ولهذا قال :
[٩] (وَدُّوا) ، أي : المشركون (لَوْ تُدْهِنُ) ، أي : توافقهم على بعض ما هم عليه ، إما بالقول ، أو الفعل ، أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه.
(فَيُدْهِنُونَ) ، ولكن اصدع بأمر الله ، وأظهر دين الإسلام ، فإن تمام إظهاره ، نقض ما يضاده ، وعيب ما يناقضه.
[١٠] (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) ، أي : كثير الحلف ، فإنه لا يكون كذلك إلا وهو كذاب. ولا يكون كذابا ، إلا وهو (مَهِينٍ) ، أي : خسيس النفس ، ناقص الحكمة ، ليس له رغبة في الخير ، بل إرادته في شهوات نفسه الخسيسة.
[١١] (هَمَّازٍ) أي : كثير العيب للناس والطعن فيهم ، بالغيبة والاستهزاء ، وغير ذلك. (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) ، أي : يمشي بين الناس بالنميمة ، وهو : نقل كلام بعض الناس لبعض ، لقصد الإفساد بينهم ، وإيقاع العداوة والبغضاء.
[١٢ ـ ١٣] (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) الذي يلزمه القيام به من النفقات الواجبة والكفارات والزكوات وغير ذلك ، (مُعْتَدٍ) على الخلق يظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم (أَثِيمٍ) ، أي : كثير الإثم والذنوب المتعلقة في حق