ذكره بعده في قوله : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) ، فإن أهل الكتاب ، إذا وافق ما عندهم وطابقه ، ازداد يقينهم بالحق ، والمؤمنون كلما أنزل الله آية ، فآمنوا بها ، وصدقوا ، ازداد إيمانهم. (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) ، أي : ليزول عنهم الريب والشك. وهذه مقاصد جليلة ، يعتني بها أولو الألباب ، وهي : السعي في اليقين ، وزيادة الإيمان في كلّ وقت ، وكلّ مسألة من مسائل الدين ، ودفع الشكوك والأوهام ، التي تعرض في مقابلة الحقّ ، فجعل ما أنزله على رسوله ، محصلا لهذه المقاصد الجليلة ، ومميزا للصادقين من الكاذبين. ولهذا قال : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، أي : شك وشبهة ونفاق. (وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) وهذا على وجه الحيرة والشك منهم ، والكفر بآيات الله ، وهذا وذاك ، من هداية الله لمن يهديه ، وإضلاله لمن يضله ، ولهذا قال : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فمن هداه الله ، جعل ما أنزل على رسوله رحمة في حقه ، وزيادة في إيمانه ودينه. ومن أضله ، جعل ما أنزله على رسوله ، زيادة شقاء عليه وحيرة ، وظلمه في حقه ، والواجب أن يتلقى ما أخبر الله به ورسوله بالتسليم. (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ) من الملائكة وغيرهم (إِلَّا هُوَ) فإذا كنتم جاهلين بجنوده ، وأخبركم بها العليم الخبير ، فعليكم أن تصدقوا خبره ، من غير شك ولا ارتياب. (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) ، أي : وما هذه الموعظة والتذكار ، مقصودا به العبث واللعب ، وإنما المقصود به ، أن يتذكر به البشر ما ينفعهم فيفعلونه ، وما يضرهم فيتركونه.
[٣٢] (كَلَّا) هنا بمعنى : حقا ، أو بمعنى «ألا» الاستفتاحية. فأقسم تعالى بالقمر ، وبالليل وقت إدباره ، والنهار وقت إسفاره ، لاشتمال المذكورات ، على آيات الله العظيمة ، الدالة على كمال قدره الله وحكمته ، وسعة سلطانه ، وعموم رحمته وإحاطة علمه. والمقسم عليه ، قوله :
[٣٥] (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) (٣٥) ، أي : إن النار لإحدى العظائم الطامة والأمور الهامة. فإذا أعلمناكم بها ، وكنتم على بصيرة ، من أمرها ، فمن شاء منكم أن يتقدم ، فيعمل بما يقربه إلى الله ، ويدنيه من رضاه ، ويزلفه من دار كرامته. أو يتأخر عما خلق له ، وعما يحبه الله ويرضاه ، فيعمل بالمعاصي ، ويتقرب إلى جهنم ، كما قال تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية.
[٣٨] (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) من أفعال الشر وأعمال السوء ، (رَهِينَةٌ) بها موثقة بسعيها ، قد ألزم عنقها ، وغل في رقبتها ، واستوجبت به العذاب.
[٣٩] (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) (٣٩) فإنهم لم يرتهنوا ، بل أطلقوا وفرحوا.
[٤٠] (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ) (٤١) ، أي : في جنات قد حصل لهم فيها جميع مطلوباتهم ، وتمت لهم الراحة والطمأنينة ، حتى أقبلوا يتساءلون ، فأفضت بهم المحادثة ، أن سألوا عن المجرمين : أي حال وصلوا إليها ، وهل وجدوا ما وعدهم الله؟ فقال بعضهم لبعض : «هل أنتم مطلعون عليهم» ، فاطلعوا عليهم في وسط الجحيم ، يعذبون ، فقالوا لهم :
[٤٢] (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (٤٢) ، أي : أيّ شيء أدخلكم فيها؟ وبأي ذنب استحققتموها؟
[٤٣ ـ ٤٤] (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (٤٤) فلا إخلاص للمعبود ولا إحسان ، ولا نفع للخلق المحتاجين.
[٤٥] (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) (٤٥) ، أي : نخوض بالباطل ، ونجادل به الحقّ.
[٤٦] (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٤٦) ، هذه آثار الخوض بالباطل ، وهو التكذيب بالحق ، ومن أحق الحقّ ، يوم الدين ، الذي هو محل الجزاء على الأعمال ، وظهور ملك الله وحكمه العدل لسائر الخلق.
[٤٧] فاستمر عملنا على هذا المذهب الباطل (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) (٤٧) ، أي : الموت : فلما ماتوا على الكفر تعذرت حينئذ عليهم الحيل ، وانسدّ في وجوههم باب الأمل.
[٤٨] (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٤٨) لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى ، وهؤلاء لا يرضى الله أعمالهم.
[٤٩] فلما بين الله مآل المخالفين ، وبين ما يفعل بهم ، عطف على الموجودين بالعتاب واللوم ، فقال : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٤٩) ، أي : صادين غافلين عنها.
[٥٠] (كَأَنَّهُمْ) في نفرتهم الشديدة منها ، (حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) ،