ترك ما هو أحب إليه ، فنهى عباده أن يجعلوا أيمانهم عرضة ، أي : مانعة وحائلة عن أن يبروا ، أي : يفعلوا خيرا ، ويتقوا شرا ، ويصلحوا بين الناس. فمن حلف على ترك واجب ، وجب حنثه ، وحرم إقامته على يمينه ، ومن حلف على ترك مستحب ، استحب له الحنث ، ومن حلف على فعل محرم ، وجب الحنث ، أو على فعل مكروه ، استحب الحنث ، وأما المباح فينبغي فيه حفظ اليمين عن الحنث. ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة ، أنه «إذا تزاحمت المصالح ، قدم أهمها» ، فهنا تتميم اليمين مصلحة ، وامتثال أوامر الله في هذه الأشياء مصلحة أكبر من ذلك ، فقدمت لذلك. ثم ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين ، فقال : (وَاللهُ سَمِيعٌ) ، أي : لجميع الأصوات (عَلِيمٌ) بالمقاصد والنيات ، ومنه سماعه لأقوال الحالفين ، وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شر. وفي ضمن ذلك التحذير من مجازاته ، وأن أعمالكم ونياتكم ، قد استقر علمها عنده.
[٢٢٥] ثم قال تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (٢٢٥). أي : لا يؤاخذكم بما يجري على ألسنتكم من الأيمان اللاغية ، التي يتكلم بها العبد من غير قصد منه ولا كسب قلب ، ولكنها جرت على لسانه ، كقول الرجل في عرض كلامه : «لا والله» ، و «بلى والله» ، وكحلفه على أمر ماض ، يظن صدق نفسه ، وإنما المؤاخذة ، على ما قصده القلب. وفي هذا دليل على اعتبار المقاصد في الأقوال ، كما هي معتبرة في الأفعال. والله (غَفُورٌ) لمن تاب إليه ، (حَلِيمٌ) بمن عصاه ، حيث لم يعاجله بالعقوبة ، بل حلم عنه وستر ، وصفح مع قدرته عليه ، وكونه بين يديه.
[٢٢٦] وهذا من الأيمان الخاصة بالزوجة ، في أمر خاص وهو حلف الرجل ، على ترك وطء زوجته مطلقا ، أو مقيدا ، بأقل من أربعة أشهر أو أكثر. فمن آلى من زوجته خاصة ـ فإن كان لدون أربعة أشهر ، فهذا مثل سائر الأيمان ، إن حنث كفر ، وإن أتم يمينه ، فلا شيء عليه ، وليس لزوجته عليه سبيل ، لأنه ملكه أربعة أشهر. وإن كان أبدا ، أو مدة تزيد على أربعة أشهر ، ضربت له مدة أربعة أشهر من يمينه ، إذا طلبت زوجته ذلك ، لأنه حق لها ، فإذا تمت ، أمر بالفيئة ، وهو الوطء ، فإن وطئ ، فلا شيء عليه إلا كفارة اليمين ، وإن امتنع أجبر على الطلاق ، فإن امتنع طلق عليه الحاكم. ولكن الفيئة والرجوع إلى زوجته ، أحب إلى الله تعالى ، ولهذا قال : (فَإِنْ فاؤُ) ، أي : رجعوا إلى ما حلفوا على تركه ، وهو الوطء. (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر لهم ما حصل منهم من الحلف ، بسبب رجوعهم. (رَحِيمٌ) حيث جعل لأيمانهم كفارة وتحلة ، ولم يجعلها لازمة لهم ، غير قابلة للانفكاك ، ورحيم بهم أيضا ، حيث فاؤوا إلى زوجاتهم ، وحنوا عليهن ورحموهن.
[٢٢٧] (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) ، أي : امتنعوا عن الفيئة ، فكان ذلك دليلا على رغبتهم عنهن ، وعدم إرادتهم لأزواجهم ، وهذا لا يكون إلا عزما على الطلاق ، فإن حصل هذا الحق الواجب منه مباشرة ، وإلا أجبره الحاكم عليه ، أو قام به. (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فيه وعيد وتهديد ، لمن يحلف هذا الحلف ، ويقصد بذلك المضارة والمشاقة.
ويستدل بهذه الآية ، على أن الإيلاء ، خاص بالزوجة ، لقوله : (مِنْ نِسائِهِمْ) ، وعلى وجوب الوطء في كل أربعة أشهر مرة ، لأنه بعد الأربعة ، يجبر ، إما على الوطء ، أو على الطلاق ، ولا يكون ذلك إلا لتركه واجبا.
[٢٢٨] أي : النساء اللاتي طلقهن أزواجهن (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) ، أي : ينتظرن ويعتددن مدة (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ، أي : حيض ، أو أطهار على اختلاف العلماء في المراد بذلك ، مع أن الصحيح أن القرء ، الحيض ، ولهذه العدة ، عدة حكم ، منها : العلم ببراءة الرحم ، إذا تكرر عليها ثلاثة الأقراء ، علم أنه ليس في رحمها حمل ، فلا يفضي إلى اختلاط الأنساب. ولهذا أوجب تعالى عليهن الإخبار عن (ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) وحرم عليهن كتمان ذلك من حمل أو حيض ، لأن كتمان ذلك ، يفضي إلى مفاسد كثيرة ، فكتمان الحمل ، موجب أن تلحقه بغير من هو له ، رغبة فيه أو استعجالا لانقضاء العدة. فإذا ألحقته بغير أبيه ، حصل من قطع الرحم والإرث ، واحتجاب محارمه وأقاربه عنه ،