المخلوقات ، ودانت له الموجودات ، وخضعت له الصعاب ، وذلت له الرقاب. (الْعَظِيمُ) الجامع ، لجميع صفات العظمة والكبرياء ، والمجد والبهاء ، الذي تحبه القلوب ، وتعظمه الأرواح ، ويعرف العارفون أن عظمة كل شيء ، وإن جلت عن الصفة ، فإنها مضمحلة في جانب عظمة العلي العظيم. فآية احتوت على هذه المعاني التي هي أجلّ المعاني ، يحق أن تكون أعظم آيات القرآن ، ويحق لمن قرأها ، متدبرا متفهما ، أن يمتلىء قلبه من اليقين والعرفان والإيمان ، وأن يكون محفوظا بذلك من شرور الشيطان.
[٢٥٦] هذا بيان لكمال هذا الدين الإسلامي ، وأنه لكمال براهينه ، واتضاح آياته ، وكونه هو دين العقل والعلم ، ودين الفطرة والحكمة ، ودين الصلاح والإصلاح ، ودين الحق والرشد ، فلكماله وقبول الفطرة له ، لا يحتاج إلى الإكراه عليه ؛ لأن الإكراه إنما يقع على ما تنفر عنه القلوب ، ويتنافى مع الحقيقة والحق ، أو لما تخفى براهينه وآياته ، وإلا فمن جاءه هذا الدين ، ورده ولم يقبله ، فإنه لعناده. فإنه قد تبين الرشد من الغي ، فلم يبق لأحد عذر ولا حجة ، إذا رده ولم يقبله ، ولا منافاة بين هذا المعنى ، وبين الآيات الكثيرة الموجبة للجهاد ، فإن الله أمر بالقتال ليكون الدين كله لله ، ولدفع اعتداء المعتدين على الدين. وأجمع المسلمون على أن الجهاد ماض مع البر والفاجر ، وأن من الفروض المستمرة ، الجهاد القولي الفعلي. فمن ظن من المفسرين أن هذه الآية تنافي آيات الجهاد ، فجزم بأنها منسوخة فقوله ضعيف ، لفظا ومعنى ، كما هو واضح بيّن لمن تدبر الآية الكريمة ، كما نبهنا عليه. ثم ذكر الله انقسام الناس إلى قسمين : قسم آمن بالله وحده لا شريك له ، وكفر بالطاغوت ـ وهو كل ما ينافي الإيمان بالله من الشرك وغيره ـ ، فهذا قد استمسك بالعروة الوثقى ، التي لا انفصام لها ، بل هو مستقيم على الدين الصحيح ، حتى يصل به إلى الله ؛ وإلى دار كرامته. ويؤخذ القسم الثاني ، من مفهوم الآية ، أن من لم يؤمن بالله ، بل كفر به ، وآمن بالطاغوت ، فإنه هالك هلاكا أبديا ، ومعذب عذابا سرمديا. وقوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ) ، أي : لجميع الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات ، وسميع لدعاء الداعين ، وخضوع المتضرعين. (عَلِيمٌ) بما أكنته الصدور ، وما خفي من خفايا الأمور ، فيجازي كل أحد بحسب ما يعلمه ، من نياته وعمله.
[٢٥٧] هذه الآية مرتبة على الآية التي قبلها ، فالسابقة هي الأساس ، وهذه هي الثمرة. فأخبر تعالى أن الذين آمنوا بالله ، وصدقوا إيمانهم ، بالقيام بواجبات الإيمان ، وترك كل ما ينافيه ، أنه وليهم ، يتولاهم بولايته الخاصة ، ويتولى تربيتهم ، فيخرجهم من ظلمات الجهل والكفر والمعاصي والغفلة والإعراض ، إلى نور العلم واليقين والإيمان ، والطاعة والإقبال الكامل على ربهم ، وينوّر قلوبهم بما يقذفه فيها من نور الوحي والإيمان ، وييسرهم لليسرى ، ويجنبهم العسرى. وأما الذين كفروا ، فإنهم لما تولوا غير وليهم ، ولأهم الله ما تولوا لأنفسهم ، وخذلهم ، ووكلهم إلى رعاية من تولاهم ، ممن ليس عنده نفع ولا ضر ، فأضلّوهم وأشقوهم ، وحرموهم هداية العلم النافع والعمل الصالح ، وحرموهم السعادة ، وصارت النار مثواهم ، خالدين فيها مخلدين. اللهم تولنا فيمن توليت.
[٢٥٨] يقص الله علينا من أنباء الرسل والسالفين ، ما به تتبين الحقائق ، وتقوم البراهين المتنوعة على التوحيد.