اللفظ ، بل ينافيه ، ولا يدل عليه المعنى. فأي آية وبرهان ، برجوع البلدان الدامرة إلى العمارة ، وهذه لم تزل تشاهد ، تعمر قرى ومساكن ، وتخرب أخرى ، وإنما الآية العظيمة في إحيائه بعد موته ، وإحياء حماره ، وإبقاء طعامه وشرابه ، لم يتعفن ولم يتغير. ثم قوله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) صريح في أنه لم يتبين له إلا بعد ما شاهد هذه الحالة الدالة على كمال قدرته عيانا.
[٢٦٠] وأما البرهان الآخر ، فإن إبراهيم قال طالبا من الله ، أن يريه كيف يحيي الموتى ، فقال الله له : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) ليزيل الشبهة عن خليله. (قالَ) إبراهيم : (بَلى) يا رب ، قد آمنت أنك على كل شيء قدير ، وأنك تحيي الموتى ، وتجازي العباد ، ولكن أريد أن يطمئن قلبي ، وأصل إلى درجة عين اليقين. فأجاب الله دعوته ، كرامة له ، ورحمة بالعباد ، (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) ولم يبين أي الطيور هي ، فالآية حاصلة بأي نوع منها ، وهو المقصود ، (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) ضمهن ، واذبحهن ، ومزقهن (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). ففعل ذلك ، وفرّق أجزاءهن على الجبال ، التي حوله ، ودعاهن بأسمائهن ، فأقبلن إليه ، أي : سريعات ، لأن السعي : السرعة ، وليس المراد أنهن جئن على قوائمهن ، وإنما جئن طائرات ، على أكمل ما يكون من الحياة. وخصّ الطيور بذلك ، لأن إحياءهن أكمل وأوضح من غيرهن. وأيضا أزال في هذا كل وهم ، ربما يعرض للنفوس المبطلة ، فجعلهن متعددات أربعة ، ومزقهن جميعا ، وجعلهن على رؤوس الجبال ، ليكون ذلك ظاهرا علنا ، يشاهد من قرب ومن بعد ، وأنه نحاهن عنه كثيرا ، لئلا يظن أن يكون عاملا حيلة من الحيل ، وأيضا أمره أن يدعوهن فجئن مسرعات. فصارت هذه الآية أكبر برهان على كمال عزة الله وحكمته. وفيه تنبيه على أن البعث فيه يظهر للعباد كمال عزة الله وحكمته وعظمته وسعة سلطانه ، وتمام عدله وفضله.
[٢٦١] هذا حث عظيم من الله لعباده على إنفاق أموالهم في سبيله ، وهو طريقه للوصول إليه ، فيدخل في هذا إنفاقه في ترقية العلوم النافعة ، وفي الاستعداد للجهاد في سبيله ، وفي تجهز المجاهدين ، وتجهيزهم ، وفي جميع المشاريع الخيرية النافعة للمسلمين. ويلي ذلك الإنفاق على المحتاجين ، والفقراء والمساكين. وقد يجتمع الأمران ، فيكون في النفقة دفع الحاجات ، والإعانة على الخير والطاعات ، فهذه النفقات مضاعفة ، هذه المضاعفة بسبعمائة إلى أضعاف أكثر من ذلك ، ولهذا قال : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) ، وذلك بحسب ما يقوم بقلب المنفق ، من الإيمان ، والإخلاص التام ، وفي ثمرات نفقته ونفعها ، فإن بعض طرق الخيرات يترتب على الإنفاق فيها منافع متسلسلة ، ومصالح متنوعة ، فكان الجزاء من جنس العمل. ثم أيضا ذكر ثوابا آخر للمنفقين أموالهم في سبيله ، نفقة صادرة ، مستوفية لشروطها ، منتفية موانعها ، فلا يتبعون المنفق عليه منا منهم عليه ، وتعدادا للنعم ، وأذية له ، قولية أو فعلية. فهؤلاء (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) بحسب ما يعلمه منه ، وبحسب نفقاتهم ونفعها ، وبفضله الذي لا تناله ، ولا تصل إليه صدقاتهم. (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، فنفى عنهم المكروه الماضي ، بنفي الحزن ، والمستقبل بنفي الخوف