هذا ما ينقص من هذا ، ليقيم بذلك مصالح خلقه. ويخرج الحي من الميت ، كما يخرج الزروع والأشجار المتنوعة من بذورها ، والمؤمن من الكافر ، والميت من الحي. كما يخرج الحبوب والنوى ، والزروع من الأشجار ، والبيضة من الطائر ، فهو الذي يخرج المتضادات ، بعضها من بعض ، وقد انقادت له جميع العناصر. وقوله : (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) ، قد ذكر الله في غير هذه الآية الأسباب التي ينال بها رزقه كقوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ). (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ). فعلى العباد أن لا يطلبوا الرزق ، إلا من الله ، ويسعوا فيه بالأسباب التي يسرها الله وأباحها.
[٢٨] هذا نهي من الله ، وتحذير للمؤمنين ، أن يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، فإن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ، والله وليهم. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) التولي (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) ، أي : فهو بريء من الله ، والله بريء منه ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ). وقوله : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) ، أي : إلا أن تخافوا على أنفسكم في إبداء العداوة للكافرين ، فلكم ـ في هذه الحال ـ الرخصة في المسالمة والمهادنة ، لا في التولي الذي هو محبة القلب ، الذي تتبعه النصرة. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ، أي : فخافوه واخشوه ، وقدموا خشيته على خشية الناس ، فإنه هو الذي يتولى شؤون العباد ، وقد أخذ بنواصيهم ، وإليه يرجعون وسيصيرون إليه ، فيجازي من قدم حقوقه ورجاءه ، على غيره بالثواب الجزيل ، ويعاقب الكافرين ، ومن تولاهم بالعذاب الوبيل.
[٢٩] يخبر تعالى بإحاطة علمه بما في الصدور ، سواء أخفاه العباد ، أو أبدوه ، كما أن علمه محيط بكل شيء ، في السماء والأرض ، فلا تخفى عليه خافية. ومع إحاطة علمه ، فهو العظيم القدير على كل شيء ، الذي لا يمتنع عن إرادته موجود.
[٣٠] ولما ذكر لهم من عظمته وسعة أوصافه ، ما يوجب للعباد أن يراقبوه في كل أحوالهم ، ذكر لهم أيضا ، داعيا آخر إلى مراقبته وتقواه ، وهو أنهم كلهم صائرون إليه ، وأعمالهم ـ حينئذ ، من خير وشر ـ محضرة. فحينئذ يغتبط أهل الخير ، بما قدموا لأنفسهم ، ويتحسر أهل الشر إذا وجدوا ما عملوه محضرا ويودون أن بينهم وبينه أمدا بعيدا. فإذا عرف العبد أنه ساع إلى ربه ، وكادح في هذه الحياة ، وأنه لا بد أن يلاقي ربه ، ويلاقي سعيه ، أوجب له أخذ الحذر ، والتوقي من الأعمال التي توجب الفضيحة والعقوبة ، والاستعداد بالأعمال الصالحة ، التي توجب السعادة والمثوبة ، ولهذا قال تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ، وذلك بما يبدي لكم من أوصاف عظمته ، وكمال عدله وشدة نكاله ، ومع شدة عقابه ، فإنه رؤوف رحيم. ومن رأفته ورحمته ، أنه خوّف العباد ، وزجرهم عن الغي والفساد ، كما قال تعالى ـ لما ذكر العقوبات ـ : (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) ، فرأفته ورحمته ، سهّلت لهم الطرق ، التي ينالون بها الخيرات ، ورأفته ورحمته ، حذرتهم من الطرق التي تقضي بهم إلى المكروهات. فنسأله تعالى أن يتمم علينا إحسانه بسلوك الصراط المستقيم ، والسلامة من الطرق ، التي تفضي بسالكها إلى الجحيم.